
بقلم/طه عودة أوغلو/باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية [1]خاص ـ سراي بوست
كلما طال أمد الحرب الروسية-الأوكرانية، كلما تفشّت تداعياتها بسرعة لتواجه
تركيا ومعها العالم بأسره أخطر أزمة اقتصادية نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة
التي تتجلى مفاعيلها بوضوح بزيادة نسبة التضخم وما يعقبها من ارتفاع أسعار
غالبية السلع ليدخل الاقتصاد العالمي فعليا مرحلة الكساد.
إن تأثير هذا الأزمة على تركيا غير قابل للجدل.. وكيف لا؟.. وهي التي تعاني
أساسا من أزمة اقتصادية هي الأقسى في تاريخها. وهذه الأزمة المستحدثة كانت
كفيلة بإثارة الرعب من ارتداداتها وثقلها على الأمن الغذائي للأتراك، وعلى
قطاعات واسعة من الطاقة والقمح والسياحة في تركيا، والخوف من تعطل التجارة
مع جارتيها على البحر الأسود وما قد يطاولها من نقص بحسب تطورات الحرب
وإجراءات الدول المصدرة.
ومنذ عام 2018، يشهد الاقتصاد التركي تراجعاً مضطرداً بسبب ارتفاع نسبة
البطالة والتضخم الذي أصبح من بين أعلى المعدلات عالمياً، وانهيار قيمة
العملة المحلية أمام الدولار. وكلما بدأت الحكومة باتخاذ إجراءات لتصحيح
المسار الاقتصادي كلما جاءت محفزات خارجية تشدّ البلاد إلى الوراء، أخرها
كانت هذه الأزمة الروسية-الأوكرانية التي تهدد بأكل الأخضر واليابس في
العالم.
هذا التصعيد جاء أيضا في وقت كان يتوقع المسئولون الأتراك فيه ازديادا طال
انتظاره في أرقام السياح بعد تفشي جائحة “كورونا” خصوصا أن تركيا تعتمد على
قطاع السياحة إلى حد بعيد في انتعاش اقتصادها، علماً أن نسبة الوافدين
شهرياً إلى تركيا، العام الماضي، من الروس بلغت 17 في المئة مقابل 9 في
المئة من الأوكرانيين. كما من المتوقع أن يؤدي استمرار الأزمة الأوكرانية
إلى توقف الصادرات التركية إلى روسيا وأوكرانيا بالتزامن مع العقوبات
الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا على روسيا
بالتنسيق مع المفوضية الأوروبية.
لهذا السبب، ومع تفاقم القلق لدى المستهلك المحلي خصوصاً من ارتفاع سعر زيت
الطهي والمنتجات الأساسية الأخرى، تحركت الحكومة لاستباق المشاكل التي قد
تحدث نتيجة هذه الأزمة، فشكلت لجان خاصة لمتابعة الأمن الغذائي ومكافحة
عمليات احتكار السلع، كما خصصت فرق لمداهمة المحال التجارية بهدف حماية
المواطنين من الوقوع فريسة جشع التجار الذين يعتبرون سبباً أساسياً في
الارتفاع الجنوني للأسعار بل ورفعت عقوبة كل من يتلاعب بالأسعار إلى حد
السجن.
كذلك الأمر، وعلى الرغم من نفي وزير الزراعة واحد كيريشجي، الأسبوع الماضي،
لكل الادعاءات التي تتحدث عن نفاذ مخزون المواد الغذائية أو نقص في مخزون
الزيت، وتأكيده أن تركيا لديها ما يكفيها من الإمدادات الغذائية إلا أن
وسائل التواصل الاجتماعي نشرت فيديوهات عديدة تظهر تهافت المواطنين على
شراء زيت عباد الشمس خشية نفاذه. وعليه، اتخذت الحكومة خطوة سريعة وفي غاية
الأهمية بحظر تصدير كل أنواع الزيوت بهدف حل مشكلة الطلب المحلي.
وبينما كان همّ المواطن الوحيد هو كيفية تأمين عيشه من المستقبل المجهول،
انشغل عالم السياسة بتبادل الاتهامات حيث اتهمت
اتهمت الحكومة، المعارضة، بشن
حملات تشويه اقتصادية لإثارة الذعر بين المواطنين بينما المعارضة تجاوزت في
انتقاداتها للحكومة كل الحدود لتحمّلها مسئولية تداعيات الأزمة
الروسية-الأوكرانية على الاقتصاد.
هذا الواقع الاستثنائي الأليم والمرتبط باختلال التوازن الاقتصادي العالمي،
يزيد من قناعة “أنقرة” بضرورة التعامل المدروس مع الأزمة
الروسية-الأوكرانية بالوقوف على الحياد وإمساك العصا من المنتصف وعدم
الاتجاه لتأييد طرف دون الآخر حفاظا على مصالحها مع الجميع.
ففي السنوات الثمانية الأخيرة، تنامت علاقات روسيا وتركيا الاقتصادية
ليتشارك البلدين في مشروع الطاقة الضخم “ترك ستريم” الذي سيسدد احتياجات
تركيا من الطاقة علاوة على نقل الغاز الروسي إلى أوروبا. أضف إلى ذلك، تولي
حكومة أردوغان اهتماماً كبيرا بمآل مئات الشركات التركية العاملة في روسيا
على قدر اهتمامها بتدفق السياح الروس نحو تركيا وهم الذين يقدمون مليارات
الدولارات للاقتصاد السياحي التركي، لذا بات اقتصاد البلدين متداخلاً
ومتشابكا لمعدلات غير معهودة.
أما بالنسبة لأوكرانيا، فتعتبر تركيا واحدة من أهم المستثمرين الاقتصاديين
فيها حيث ارتفع حجم التجارة الثنائية بين البلدين بنسبة 50 بالمئة خلال
الأشهر التسعة الأولى من عام 2021 ليصل إلى حوالي 5 مليارات دولار في ظل
وجود أكثر من 700 شركة تركية على الأراضي الأوكرانية.
بالتالي، كعضو في “منظمة حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، من غير المرجح أن
تلعب تركيا أي دور مباشر في القتال في أوكرانيا ويتجسد ذلك في امتناعها عن
الانضمام إلى العقوبات ضد المصالح الروسية وامتناعها أيضا عن التصويت في
مجلس أوروبا أثناء التصويت على تعليق عضوية روسيا.
وبناء على كل هذه المعطيات، يمكن القول أن “أنقرة” ما زالت ملتزمة بقراءة
حرفية للتطورات، وباستراتيجية سياسية متوازنة من حيث التضامن مع أوكرانيا
من جهة، ومتابعة دور الوساطة بين الطرفين لتغليب الحلول السياسية على
السلاح، ما يؤكد أن الدبلوماسية التركية ترسم بعناية موقفا لا يضر بمصالحها
المتشابكة بين روسيا من جهة وأوكرانيا وأوروبا والغرب من جهة أخرى .
المصادر
↑1 | خاص ـ سراي بوست |
---|