
بقلم طه عودة أوغلو/باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية [1]خاص سراي بوست
لا شك أن الزيارة التي قام بها الرئيس الأوكراني فلاديمير زلنسكي إلى تركيا مؤخرا مثلت في ظروفها ومعطياتها تطورا وتحولا نوعيا كبيرا في البيت التركي-الأوكراني الذي كان شاهدا على مدار السنوات السبع الماضية على تطورات مهمة، ترافقت مع توقيع اتفاقيات تاريخية على مختلف الأصعدة.
وفي سياق سرد مراحل تطور العلاقات التركية-الأوكرانية، يمكن القول أنها اتخذت منعطفا تاريخيا بالتحديد منذ عام 2015 عقب أزمة إسقاط تركيا للمقاتلة الحربية الروسية في سوريا حيث بدأ البلدان بمخاطبة ود بعضهما البعض بشكل واضح في خطوة اعتبرتها “موسكو” بمثابة تحدي لها، وفترة عابرة بسبب العلاقات المتوترة مع “أنقرة” والتي دامت لأشهر طويلة نتيجة هذه الأزمة.
لكن ومع مرور الزمن، وعلى الرغم من عودة التقارب بين “أنقرة” و”موسكو” إلا أن العلاقات التركية-الأوكرانية لم تهتز أبدا، وأثبتت أنها لم تكن مجرد خطوة لحظية بل علاقة قوية ومتوازنة مبنية على أسس استراتيجية لمستقبل واعد حيث لم تترك تركيا هذه الجمهورية السوفيتية السابقة وحيدة أمام مشاكلها مع جارتها الكبرى روسيا بل سعت وبقوة إلى حمل مفاتيح التوازن في العلاقات، فنجحت ببراعة في تعزيز العلاقات مع الدولتين، وفي نفس الوقت تمكنت عبر أوكرانيا من اكتساب أوراق ردع كثيرة في وجه روسيا سياسية واقتصادية وعسكرية، تشكل مكسبا كبيرا لها على المدى الطويل في المنطقة والمحافل الدولية بما يحقق لها أكبر قدر من المصالح الاستراتيجية.
ولعل المتابع للمشهد الأوكراني، يمكنه أيضا ملاحظة مدى الاستفادة الأوكرانية من العلاقات مع تركيا في ظل وجود حكومة قوية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان يمكنها الاعتماد عليها في الدعم الحاسم الذي يمكن أن يساعدها في أي من القضايا المحورية التي تصادفها منذ نجاح ثورتها الملونة في فبراير/شباط 2014 في الإطاحة بالرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش الذي كان محسوبا على “موسكو” خصوصا فيما يخص قضية استعادة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في مارس/ آذار 2014 بموجب نتائج استفتاء شعبي، رفضت أوكرانيا وتركيا والغالبية الساحقة من المجتمع الدولي شرعيتها لا سيما “أنقرة” التي ترى أن “تتار القرم” هم جزء لا يتجزأ من العالم التركي الكبير الذي تشاركه اللغة والتاريخ والثقافة الواحدة، وهو ما أكده الرئيس أردوغان في أكثر من مناسبة.
من هنا، فإن تركيا التي أكدت مرارا وتكرارا أن تقاربها مع أوكرانيا لا يستهدف أي طرف ثالث في إشارة إلى الروس الذين ينظرون تحديدا بعين الريبة والشك إلى التعاون العسكري بين “أنقرة” و”كييف”، أفردت في السنوات الأخيرة مساحة واسعة للتعاون العسكري مع أوكرانيا حيث شرع البلدان بتوقيع مذكرات للتعاون في مجال التسليح والصناعات الدفاعية؛ أولهم كان اتفاقية التعاون العسكري التي تم التوقيع عليها في مايو/أيار 2016 وتضمّنت تحضيرا للبدء بمشاريع إنتاج عسكري مشترك، وتنفيذ مناورات عسكرية مشتركة بين البلدين. أعقب ذلك في يناير/كانون الثاني 2017، توقيع البلدين بروتوكولا للتعاون العسكري، تضمّن صفقات شراء أوكرانيا معدّات عسكرية تركيةـ تبعها في مارس/آذار من العام نفسه خلال معرض “إيديف” للصناعات الدفاعية في “إسطنبول”، توقيع اتفاقيات إنتاج مشترك للذخائر، وتقنيات الرادار، والطائرات المسيّرة إلى أخر استخدام أوكرانيا، الشهر الماضي، لمسيرات تركية من طراز “بيرقدار تي بي2” التي قامت بقصف الانفصاليين الموالين لروسيا في منطقة “دونباس” والبحر الأسود، هذه المسيرات التي وصفها وزير الدفاع الأوكراني أندري تاران بأنها من أنجع وأكثر الأسلحة الحديثة فعالية وكفاءة في العالم بقوله:”لا حاجة لإقناع أي شخص أن المسيرات التركية هي أكثر الأسلحة الحديثة فعالية في العالم، فالجميع رأى ذلك في سوريا وليبيا وفي جبهات القتال بإقليم “كاراباخ” مؤخرا”، معبرا عن أمله بالإنتاج المشترك مع تركيا ونقل تقنياتها الحربية إلى أوكرانيا. أما روسيا، فعلى ما يبدو قرأت هذا التقارب العسكري-الأوكراني من منظار أن “أنقرة” تحاول تأجيج الصراع بينها وأوكرانيا لتستخدمها كورقة ضغط ضدها من جهة، ولتجد سوقا جديدا لبيع منتجاتها العسكرية من جهة أخرى.
من الطبيعي أن زيادة التعاون بين البلدين لم يقتصر بالتأكيد على الجانب الدفاعي والعسكري بل امتد أيضا إلى تغذية المحور الاقتصادي ليتضاعف حجم التبادل التجاري بين الجانبين خمس مرات في الأعوام الأخيرة، عززته عملية إلغاء تأشيرات الدخول وتشكيل آلية “مجلس استراتيجي عالي المستوى” بين البلدين حيث تأتي تركيا اليوم في قائمة أكبر 5 شركاء تجاريين لأوكرانيا بحجم تجارة بلغ نحو 4.8 مليار دولار سنويا، لتحقق “أنقرة” هدفها المتمثل بـ”الشراكة المعززة المتعددة الأبعاد”.
بالتالي، يمكن القول أن “أنقرة” التي تتلمس طريق الحياد في علاقاتها مع روسيا وأوكرانيا بينما تمضي بشكل مستقر في طريق تطوير علاقاتها مع “موسكو”، فإنها على خط موازي تتمسك بكل حزم بموقفها المتمثل في الحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا، وإيجاد حل لخلافاتها سلميا إدراكا منها للدور المحوري الذي تلعبه “كييف” في ضمان الاستقرار والسلام في منطقة البحر الأسود.
مع ذلك، هذا لا ينفي حقيقة أن تركيا ترى في الأزمة الأوكرانية والخلاف الروسي مع الغرب فرصة لاختبار قوتها الناعمة، ولكي تظهر للمعسكر الغربي خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية أنها يمكن أن تكون طرفا قويا للتعامل مع قضية حساسة جدا في المنطقة تطال روسيا مباشرة صالحة وتضيق الخناق عليها في مياه البحر الأسود، فتكسب بذلك ورقة تفاوضية قوية مع “واشنطن” المستاءة من سياسات إردوغان في أكثر من ملف في الشرق الأوسط، لتخف الضغوط عليها خصوصا في مرحلة الصراع الداخلي بينها والمعارضة قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المزمع إجراءها في عام 2023.
المصادر
↑1 | خاص سراي بوست |
---|