
بقلم/طه عودة أوغلو/باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية [1]خاص سراي بوست
تظهر التحركات الدبلوماسية الأخيرة المتبادلة بين “أنقرة” و”يريفان” تحولاً مهما في السياسة الخارجية لكلا البلدين والتي شهدت لأكثر من ثلاثة عقود انقطاع تام في العلاقات، وظلت تسير منذ ذلك الوقت على قاعدة الخلافات والتوتر بل وحتى التشييج الأرميني الهائل ضد تركيا في المحافل الدولية، لدفعها إلى الاعتراف بما يسمى بـ”الإبادة الجماعية” المزعومة على أيدي العثمانيين.
في تاريخ الـ14 من شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري، استيقظ الأتراك على وقع خبر مفاجئ ورد على لسان مهندس الدبلوماسية الخارجية مولود تشاووش أوغلو بكشفه عن تقدم مهم حصل على صعيد الانتقال إلى مرحلة جديدة من العلاقات بين تركيا وأرمينيا بحيث قرر كلا البلدين تبادل تعيين ممثلين خاصين بل وأعلن أيضاً عن قرب تسيير رحلات طيران غير مجدولة (شارتر) بين اسطنبول والعاصمة “يريفان” بعد ثلاثة عقود تقريباً من إغلاق الحدود بين البلدين. تصريح وصلت أصداءه إلى قلب الدبلوماسية الأرمينية التي أرسلت على الفور رسائل إيجابية جداً، معلنة ترحيبها بهذه الخطوة، واستعدادها التام لإطلاق عملية تطبيع العلاقات مع جارتها تركيا، وتعيين مبعوث خاص لها دون شروط مسبقة.
وقبل حديث تشاووش أوغلو كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أكد في سبتمبر/أيلول الماضي أن بلاده مستعدة لبدء حوار مع أرمينيا، وبالمثل أيضا جاء تصريح رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان معربا عن “استعداده” لإجراء محادثات مع تركيا.
يمكن وصف توقيت تطبيع العلاقات بين البلدين بـ(المهم) خصوصاً أنه لا ينفصل عن إشارات التحول الجديد الذي طرأ على سياسة واستراتيجية “أنقرة” الخارجية، منذ مطلع العام الجاري، تجاه دول الجوار والتي شهدت محطات صعبة جداً خلال السنوات الماضية. وهذا التغير الإيجابي أسهم بجزء كبير في تخفيف حدة التوترات والصراعات في المنطقة.
أما بالنسبة للعلاقات التركية مع أرمينيا، فإن علامة الاستفهام تبقى قائمة ووجيهة بخصوص درجة التعاون ومستوى التحالف الذي قد يضطر إليه الطرفان في ظل أزمة عدم الثقة التي تفاقمت، ووصلت حدا غير مسبوق خلال سنوات القطيعة.
من المعروف أن تركيا اهتمت خلال السنوات الماضية بالتركيز على تطوير علاقاتها مع أذربيجان التي ترتبط معها بدعائم قومية وعرقية ودم واحد عدا عن المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الهائلة التي لا يمكن مقارنتها أبدا بالمصالح مع أرمينيا خصوصاً بعد أن زادت درجة العداء بينهما في خريف 2020، على أثر النزاع العسكري الذي حدث بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم “كاراباخ” وقدمت “أنقرة” حينها كل أنواع الدعم المعنوي والسياسي والعسكري واللوجوستي إلى “باكو”. ولم تتوقف المعارك إلا بعد تدخل “موسكو” ورعايتها لاتفاق وقف الأعمال القتالية الذي كرس مكاسب ميدانية كبيرة لأذربيجان مقابل هزيمة عسكرية فادحة لأرمينيا اضطرت معها إلى التنازل عن مساحات كبيرة من الإقليم إضافة إلى سبع مناطق محاذية كانت قد سيطرت عليها خلال الحرب السابقة في تسعينيات القرن الماضي.
في السابق، كانت إحدى أهم العقبات الرئيسية التي تحول دون عودة العلاقات بين تركيا وأرمينيا هي احتلال الأخيرة لإقليم “كاراباخ”، أما اليوم فقد أُزيلت على نحو كبير فيما تبقى منها الجزء المتعلق بتسوية الخلافات المتبقية بين أذربيجان وأرمينيا. لكن وعلى الرغم من ذلك، تبدو فرص التطبيع اليوم أكبر من أي وقت مضى.
وأخيرا .. يبقى السؤال الأهم الذي يطرح نفسه حالياً: هل تتجه العلاقات بين تركيا وأرمينيا نحو “صلح كامل” بعد أن ظلت أرمينيا متشبثة لسنوات طويلة بملف “الإبادة” المزعومة بحق قرابة مليون ونصف أرمني تزعم بأنهم قُتلوا على أيدي العثمانيين في عام 1915، وهو الادعاء الذي يستفز “أنقرة” وترفضه بالمطلق وتؤكد أن ما حصل وقتها كان نتيجة حرب أهلية وقعت في الأناضول حيث تعاونت العصابات الأرمينية مع القوات الروسية لإنشاء دولة مستقلة في “الأناضول”، وحاربت الدولة العثمانية، وارتكبت المجازر بحق المدنيين في المناطق التي احتلها، بالتزامن مع مجاعة أيضاً، ما تسبب بمقتل عشرات الآلاف من الأرمن والأتراك على حد سواء.
قد تكون الإجابة بناء على المعطيات الحالية هي أن المزاج الدبلوماسي يميل نحو رغبة الطرفين في ظل المرحلة الصعبة التي تمر بها المنطقة والمتغيرات السريعة الحاصلة فيها لإصلاح العلاقات واحتواء التوتر وتحقيق التوازن لحماية مصالحهما السياسية والأمنية والاقتصادية..
ومن زاوية أخرى قد يكون هذا التقارب المفاجئ والليونة المعلنة في المواقف يندرج تحت عنوان “تحالف للضرورة”، جاء تحت وطأة الدعوات والضغط الأمريكي بضرورة إعادة العلاقات مع أرمينيا بعد أن سربت وسائل إعلام عالمية خبراً فحواه أن التطبيع مع أرمينيا “كان مطلباً للرئيس الأمريكي جو بايدن خلال لقاءه الأخير مع الرئيس أردوغان في روما”، معتبراً أنه سيعزز مساعي التقارب بين تركيا والولايات المتحدة أيضاً، وهو الأمر الذي تسعى إليه تركيا لتأمين نفسها بتحالفات تكتيكية قوية في المنطقة تعزز موقعها الإقليمي من جهة، وتكسب صداقة إدارة الرئيس بايدن التي طالما انتقدت تركيا في العديد من الملفات منها قضية الأرمن.
المصادر
↑1 | خاص سراي بوست |
---|