
بقلم/طه عودة أوغلو/باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية [1]خاص سراي بوست
كثيرة هي الأشياء التي تجمع تركيا بالصين، وعوامل أخرى تفرقهم..هذه الحقيقة تتجلى بوضوح لدى مراقبة المسيرة والاستراتيجية التركية وحتى ما قبلها في الدولة العثمانية، لنلاحظ أن تركيا تاريخيا كانت دوما تتبنى معايير تقليدية في اختيار أصدقائها وحلفائها، فكان الارتباط بينهم يقوم أكثر على الروابط العرقية والثقافية والدينية. أما الصين، فبقيت لعقود طويلة في ذيل الدول التي طورت تركيا معها علاقات دبلوماسية على قاعدة الضرورات والمصالح الاقتصادية المشتركة.
ولطالما شهدت العلاقات الدبلوماسية التركية-الصينية التي تأسست عام 1934 موجات من الصعود والهبوط، فبقيت جامدة ومتشنجة دون أن يبذل أي من الطرفين الجهود لحلحلة الوضع وتحسينه. وحتى بعد أن اعترفت تركيا رسميا بقيام جمهورية الصين الشعبية في عام 1971، بقي هذا التشنج بسبب عدة عوامل منها بعد المسافات والثقافات لكن أهمها على الإطلاق كانت أزمة “الأيغور” التي كان “عقدة العلاقات” خصوصا في تسعينيات القرن الماضي إذ من المعروف أن جميع الحكومات التركية كانت من أشد المؤيدين للنزعة الانفصالية للأيغور وهو شعب تركي عرقيا يتحدث باللغة التركية ويعيش في إقليم تركستان الشرقية الخاضع لسيطرة “بكين” منذ عام 1949، ويُعرف باسم “شينجيانغ” أي (الحدود الجديدة). ونذكر أنه في عام 1952، اتخذ رئيس وزراء تركيا آنذاك عدنان مندريس موقفا صارما من الصين بسبب ممارستها ضد الأيغور، وفتح الباب أمام بني جلدته للجوء إلى تركيا في عام 1952. وبالمثل أيضا، بعد استلام الرئيس رجب طيب إردوغان لرئاسة وزراء البلاد في عام 2003، كان من أشد المنتقدين للصين وطريقه معاملتها للأيغور.
وبالمثل أيضا، لم تلتفت الصين كثيرا و لعقود طويلة لجهة تحسين علاقاتها مع تركيا، وبقيت هذه العلاقات تسير بوتيرة متواضعة دون المستوى المتوقع فيها الكثير من التحفظ على السياسة التركية بسبب الأيغور، وكذلك تستشعر أيضا الصين أن الرغبة التركية بإقامة علاقات سياسية قوية معها ليست هدفا بحد ذاته بل ورقة ضغط تستدعيها “أنقرة” لمساومة حلفائها كلما ساءت علاقاتها مع الغرب سواء الولايات المتحدة أو أوروبا لانتزاع مزيد من الحوافز منهم.. وأحد الأمثلة على ذلك، وضع تركيا حد للمفاوضات التي استمرت عامين حول نظام الدفاع الجوي والصاروخي الصيني طويل المدى (T-Loramids) في عام 2014 بعد نشوب خلافات مع الاتحاد الأوروبي على اقتنائه رغم أن العرض الصيني كان الأفضل من بين كل العروض التي تلقتها تركيا من الشركات الأمريكية مثل “رايثون” و”لوكهيد مارتن”، ومؤسسة “روزوبروني أكسبورت” الروسية لتوريد منظومة “أس-300”.
لكن يمكن القول أنه مع بدء الغزو الصيني الاقتصادي للعالم في السبعينيات وانفتاح “بكين” على الشرق الأوسط لتصبح في السنوات العشر الأخيرة أكبر دولة مصدرة للعالم وثاني أكبر مستورد له، لفتت أنظار تركيا التي كانت أيضا لديها رغبة كبيرة بالتوسع والنمو الاقتصادي العالمي. ومع تكرار المحاولة لبناء علاقات جيدة بين البلدين، بدأت هذه المحاولات نسبيا تأتي بأُكلها في العقد الأخير فقط عبر “المدخل الاقتصادي”، فبدا جليا لدى كلا الطرفين الرغبة بالاستفادة من الحوافز الاقتصادية من خلال زيارات متبادلة وحوارات بناءة، ساهمت بازدهار التجارة ومعها تدفق الاستثمارات الصينية إلى تركيا لا سيما بعد توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين الجانبين في عام 2010.
أما التقارب الاقتصادي النوعي، فقد بدأ خصوصا مع الأزمة الاقتصادية التي ضربت تركيا عام 2018، وأدت إلى انهيار الليرة التركية حيث قدم البنك الصناعي والتجاري الصيني المملوك للدولة قرضا لتركيا بلغ 3.6 مليار دولار، كما فتحت الصين خطاً لمقايضة العملة مع تركيا إلى جانب ضخّها استثمارات بقيمة ملياري دولار في بعض القطاعات الاستراتيجية التركية ذات الأهمية بالنسبة إلى مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
أما السياسة، فظلت مختلف عليها بين البلدين في مواقع حيوية كثيرة في العالم حيث يتبنى كلا البلدين مواقف متناقضة تماما لا سيما في دول مثل مصر، سوريا، العراق، قبرص، كوسوفو، البوسنة والهرسك، وأخيرا النزاع الأرميني-الأذربيجاني.
وعليه، يمكن القول إن العلاقات التركية-الصينية تتجلى أكثر بالنواحي الاقتصادية التي تعمل كمحفز للعلاقات بينما لم يتمكن كلا البلدين لحد الآن من إيجاد أرضية ذات رؤى مشتركة تنهي التصدعات السياسية بشكل كامل بسبب المختلف عليه من الأزمات الجذرية التي تبدو أبعد من الاتفاق عليها في الوقت الراهن لا سيما إذا فتحنا ملف “الأيغور”.
بالتالي، فإن التقارب الحقيقي بين البلدين تبدو قواعده مهزوزة ولا يرقى لدرجة أن يتحمل وصف العلاقات “الصديقة والحليفة” خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أيضا أن فكرة تغيير تركيا لمحاورها السياسية مع الولايات المتحدة العدو اللدود للصين في سبيل إقامة علاقات إيجابية مع “بكين” لا يبدو أمرا موضوعيا ونزيها.
مع ذلك، لا تزال هناك العديد من الفرص لتوسيع آفاق هذه العلاقات من خلال العمل على تجاوز الخلافات السياسية، وتوسيع رقعة التفاهم بين الجانبين أو بعبارة أخرى، يبدو أن تعزيز العلاقات بين “أنقرة” و”بكين” يتطلب إرادة سياسية من الجانبين عنوانها العريض “تعظيم التفاهمات، وتجاوز الخلافات”.
المصادر
↑1 | خاص سراي بوست |
---|