أخبار دوليةالشأن التركي

هل ستقع اليونان في المصيدة الأمريكية-الفرنسية، وتفتح باب الجهنم التركي عليها؟

بقلم/طه عودة أوغلو/باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية

ما زالت الخلافات التاريخية المتراكمة بين تركيا واليونان تلقي بظلالها القاتمة على العلاقات التي تتجه في الوقت الراهن نحو تصعيد غير مسبوق.. وهذا طبعا بإيعاز وتحريض من جهات خارجية تواصل في تطبيق السيناريو المعروف والذي بات العالم كله يحفظه عن ظهر قلب؛ إلا وهو افتعال “أزمات تحت السيطرة” عبر دفع الدول إلى الاقتراب من هاوية الحرب لبيعها ما يمكن بيعه من الأسلحة، وربح مليارات الدولارات على أنقاضها.

ومن جملة هذه الدول، تبدو اليونان اليوم أنها الضحية رقم “1000” التي تقع في فخ “مستغلي الحروب بالوكالة”.. وعلى الرغم من أن “أثينا” تبدو ملتزمة تماما بالدور المنوط بها في السيناريو لكن كل المعطيات تؤكد أنها “لاعبة فاشلة”، وذلك ببساطة لأنها تلعب على مسرح دولة كبرى في منطقتها والعالم مثل تركيا تملك كل القوة والنفوذ والإمكانيات والتكنولوجيات المتقدمة التي تؤهلها لإركاع غريمتها، إذا اضطرها الأمر.

دعونا نذهب في البداية إلى لب الأزمة بين تركيا واليونان، لنرى أن الخلافات بين الدولتين الجارتين، والمفترض أنهما حليفتان في “الناتو”، محاكة بخيوط معقدة يصعب تفكيكها على غرار النزاع في جزيرة قبرص، الجرف القاري والحقوق البحرية في شرق البحر المتوسط، احتياطات الغاز، ومجالات الطيران فوق بحر “إيجة”، والجزر المتنازع عليها بين البلدين، وتسليح اليونان لهذه الجزر، وانتهاكاتها لحقوق الأقلية التركية في تراقيا الغربية.

لقد حاولت تركيا مرارا وتكرار حل المشاكل بالحوار والطرق السلمية، فأجرت محادثات مع اليونان وقدمتلها مذكرات دبلوماسية عديدة، ولعل أهم هذه المحادثات على الإطلاق كانت ما بين أعوام 2002-2016 إلا أن اليونان لم تتراجع عن تصرفاتها رغم عضويتها في “الناتو”، وظلت تضرب الاتفاقيات الدولية بعرض الحائط، لتمضي منذ ستينات القرن الماضي بأعمال تسليح 18 جزيرة متنازع عليها من أصل 23 تم نزع الأسلحة منها بموجب اتفاقية “لوزان” و”باريس”، وأنفقت مليارات اليوروهات رغم ديونها المثقلة والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها من أجلتحويل بعض الجزر مثل ليمنوس، خيوس، رودس، ساموس، ليسبوس، وكوس تدريجيا إلى مخازن لتكديس الأسلحة، وأنشأت قواعد ومطارات عسكرية فيها زودتها بطائرات حربية، ووضعت ثكنات عسكرية بعشرات الآلاف من الجنود بغرض تهديد أمن تركيا واستخدامها ضدها. 

وتركيا تقول ما هو معلوم ومؤكد للعالم كله أن هذه “العسكرة اليونانية” كلها هي بحكم وأعراف المواثيق الدولية “غير قانونية” على الإطلاق، وتشكل تهديدا على أمنها القومي لا سيما أن معاهدة “لوزان” 1923 تمنح “أثينا” فقط حق أن يكون لديها شرطة ودرك في جزر ليمني، خيوس، ساموس، وكوس، لأغراض الحفاظ على الأمن الداخلي فقط.وبنفس الشكل، عندما تم منح “رودس” وبقية الجزر لليونان بموجب اتفاقية “باريس” عام 1947، كان ذلك بشرط أن تكون منزوعة السلاح بشكل كامل.

وفي الوقت الذي تسعى فيه “أنقرة” لحل المشاكل وديا، يبدو أن لليونان خططا أخرى حيث تحاول نقل الصراع إلى ملعب أطراف ثالثة، متعلقة بحجج واهية، وأوهام ووعود دولية “أوهى” بمساندتها، فتقول أن “التسلح هو بغرض حماية أمنها”.. لكن لماذا؟.. ألا تدرك “أثينا” أنها تلعب بنار لن تحرق أصابعها فقط بل أرضها وأمنها وشعبها.. بدليل ما كشفه وزير الدفاع اليوناني نيكوس بانايوتوبولوس مؤخرا من أن اليونان وتركيا وصلتا في صيف عام 2020 إلى شفا الحرب لثلاث مرات بسبب إرسال سفينة أبحاث تركية برفقة سفن حربية إلى شرق البحر المتوسط المتنازع عليها، وقال أن القوات اليونانية بقيت في حالة التعبئة والتأهب القصوى لعدة أشهر.

حسنا؛ وماذا فعلت اليونان وقتها؟.. هل شنت بكل هذه الأسلحة والعتاد والجند حربا على تركيا، أم أنها ذهبت بدافع اليأس لتستنجد بمحرضيها (فرنسا والولايات المتحدة) لإيقاف الحراك التركي.. وفي النتيجة، اضطرت اليونان في مقابل انسحاب سفينة التنقيب التركية، للعودة في أوائل أكتوبر/تشرين الأول من عام 2020 إلى طاولة المفاوضات التقنية رقم 60، تحت إشراف “الناتو”، لتقليل مخاطر وقوع حوادث في شرق البحر المتوسط.

صحيح أن الولايات المتحدة تبدو اليوم بأنها تؤازر اليونان علنا في التوتر مع تركيا، وتقوم منذ عام 2020، وبشكل أسبوعي تقريبا، بمناورات عسكرية مع الجيش اليوناني في بحر “إيجة” كتشجيع إضافي للتصعيد ضد تركيا لكن حتى الصحف اليونانية ترى أن غرض الإدارة الأمريكية هو تحويل الأرض اليونانية إلى قواعد عسكرية دائمة لجيشها في شرق البحر المتوسط.. ومن المعروف أن الدول الكبرى خصوصا الولايات المتحدة دائما ما تميل للحروب بالوكالة، وإثارة العداء بين الجيران، لزيادة نفوذها وتحقيق مصالحها، وكذلك معروف أن “الدولة التي تقع في فخها لا ضمان في إنقاذها”.

بالتالي، يبدو أن اليونان تقترب شيئا فشيئا من هذا الفخ من خلال تصريحات رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس التي أغضبت تركيا كثيرا خلال الزيارة الأخيرة له إلى “واشنطن” حين شكا “أنقرة”، وطلب من أعضاء الكونغرس عدم الموافقة على بيع أسلحة وطائرات حربية لتركيا، والتصفيق الحار من أعضاء الكونغرس الذي دفع بالضيف اليوناني إلى الشعور بنشوة سياسية لا مثيل لها حين قال:”لو ألقيت هذه الكلمة في البرلمان اليوناني، لما لقيت مثل هذا التصفيق الحار”. 

وإذا ذهبنا إلى السؤال المطروح حاليا على الساحة: هل يمكن أن تتحول الأزمة إلى حرب ساخنة بين تركيا واليونان..أنا شخصيا استبعد ذلك على اعتبار أن كلا الدولتين هما أولا وأخيرا حلفاء في “الناتو”، ومثل هذه الحرب يمكن أن تتحول إلى فيروس قاتل للحلف في مقابل تعزيز النفوذ الروسي والإيراني في المنطقة. بالتالي، واضح أن اليونان ترفض قراءة التاريخ أو الجغرافيا ولا حتى مراجعة الحاضر أو استشراف المستقبل.. فيكفي أن تنظر إلى حال أوكرانيا والدمار الذي حلّ بها، لتأخذ العبرة من أن من يهلل لها اليوم ويدفعها للحرب، سيكون أول المتخلي عنها في حال وقوعها.

وفي رحلة التحديات والضغوطات يبدو أن كلا البلدين سيكون أمامهما طريق طويل لإثبات أحقيته في المياه الإقليمية لتبقى هذه الخلافات متأرجحة في خانة (اللاحرب واللاسلم). وإذا أخذنا بالواقع جنبا إلى جنب مع تصريحات كل المسئولين الأتراك وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب إردوغان، فإن تركيا لن تسكت أمام محاولة محاصرة أمنها القومي ووحدة أراضيها وحتى وجودها، وستسعى بكل قوتها لإفشال المؤامرات والدفاع عن حقوقها حتى وإن اضطرها الأمر للقيام بعمل عسكري على غرار ما حدث ويحدث في سوريا والعراق لتدمير الممر الذي يسعى حزب “العمال الكردستاني” لإنشائه على حدودها.. بالتالي، اليونان وبهذه التصرفات تفتح على نفسها باب جهنم من خلال إيقاظها للذئب التركي الذي من المؤكد أنه لن يتخلى عن حقوقه سواء في البحر الأبيض المتوسط أو في بحر إيجة ولا في جزيرة قبرص بل وينتظر الفرصة المناسبة لاسترداد حقه البحري بالكامل بدليل إعلان “أنقرة” وبكل وضوح أن “الانتهاك اليوناني لمعاهدات التسليح في بعض جزر بحر إيجة، سيفتح باب الجدل على حقوق السيادة حولها”.. وهذا إن كان لصالح تركيا، فهو بالتأكيد أمر لن تحبذه اليونان.