
بقلم/طه عودة أوغلو/باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية
22-7-2002م
لا شك أن قمة طهران الثلاثية التي عقدت على مستوى الرؤساء بين تركيا وروسيا وإيران حملت بالقرارت المهمة التي تم اتخاذها، والمفاوضات والحوارات الثنائية التي دارت بين الرؤساء الثلاث التركي رجب طيب إردوغان، والروسي فلادمير بوتين، والإيراني إبراهيم رئيسي، بصمة خاصة شكلا ومضمونا، لمستقبل العلاقات من ناحية، ومساهمتها برسم خارطة طريق إقليمية جديدة تكون بمثابة همزة وصل وامتداد لشراكة طويلة بين الدول الثلاث من ناحية أخرى.
ولعل السبب الذي يثمن من أهمية هذه القمة التي جاءت في وقت تشهد فيه المنطقة ترتيب المشهد الجيوسياسي وفق توازنات جديدة، لا يكمن فقط بالقضايا الساخنة التي كانت مطروحة على أجندتها مثل الملف السوري، ومستقبل “مسار أستانة”، وأزمة القمح العالمية بل في الاتفاقيات والتفاهمات التي تم نسجها من خلف الأبواب المغلقة ليخرج الزعماء الثلاثة من طهران بمكاسب كبيرة وواضحة.. صحيح أن القمة شهدت تعارضا لخطط الرئيس إردوغان للتدخل العسكري في شمال سوريا مع توافق “طهران” و”موسكو” على ضرورة صرف القوة التركية في الدبلوماسية والحوار بدلا من السلاح لكن في نفس الوقت إكثار روسيا وإيران في الثناء على تركيا، واعتدال صيغة البلدين بين “متحفظ ومتفهم” تجاه خطط “أنقرة” العسكرية في الشمال السوري يشير إلى فنون الدبلوماسية الروسية الإيرانية ورهانهما علىإقناع تركيا ببدائل ومحفزات لسد الضمور والفراغات التي تبرر لها قيامها بالعمل العسكري.
وقد يكون هذا ما حصل بالفعل، فالتصريحات الإعلامية التي صدرت من الرئيسين الروسي والإيراني طيلة القمة ورسائل الشكر المتكررة التي وجهوها لتركيا سواء على وساطتها في نقل الحبوب الأوكرانية أو على العلاقات المتينة التي تربطهما بها، كانت شاهدا على وجود جدول أعمال وأجندات أوسع بين الدول الثلاثاستوجبت الوقوف عندها وعدم المخاطرة بمستقبلها لا سيما أن كل دولة مأزومة بمشاكلها السياسية والاقتصادية، فروسيا مأزومة بحربها مع أوكرانيا وما تلاها من عقوبات غربية أوروبية ثقيلة عليها، وإيران بملفها النووي والتحشيد الإقليمي ضدها، وتركيا بارتفاع مخاطر مستويات الركود الاقتصادي والتضخم فيها، وهذه الأزمات كبيرة وتؤثر بقوة وعمق على البيت الداخلي لهذه الدول وكامل الشرق الأوسط أيضا، ما يتطلب تعويضها باستراتيجية الحفاظ على العلاقات عبر رسم خطوط وحدود النفوذ الإقليمي لهذه الدول الثلاثة وفتح أفق زمني للاتفاق بدون الانزلاق إلى صراع مفتوح على مصراعيه لن يكون مفيدا لأي منهم.
وهذا ما يتضح من خلال البيان الختامي للقمة الذي أكد التزام الدول الثلاثة بسيادة سوريا واستقلالها ومواصلة الحرب على الإرهاب بجميع أشكاله، ورفضجميع المحاولات لإيجاد حقائق جديدة على الأرض السورية بذريعة مكافحة الإرهاب، بما يشمل مبادرات الحكم الذاتي غير القانونية، والتصميم على الوقوف في وجه الأجندات الانفصالية الهادفة لتقويض سيادة ووحدة أراضي سوريا، إضافة إلى تهديد الأمن القومي للدول المجاورة، وضرورة الحفاظ على الهدوء من خلال تنفيذ جميع الاتفاقات المتعلقة بولاية “أدلب”.كما جدد القادة الثلاث اعتقادهم أن الحل العسكري للصراع السوري صعب التحقيق، وبأن الصراع لا يمكن أن ينتهي إلا من خلال عملية سياسية يقودها ويملكها السوريون، وتسهلها الأمم المتحدة، في إطار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، وشددوا على ضرورة تسهيل العودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخليا إلى أماكن إقامتهم الأصلية في سوريا لضمان حقهم في العودة بالإضافة إلى أدانةالهجمات العسكرية الإسرائيلية على سوريا، معتبرينأنها انتهاك للقانون الدولي والإنساني ولسيادة سوريا، وتعمل على زعزعة استقرار المنطقة وتصعد التوترات فيها. كما شهدت القمة أيضا توقيع اتفاقيات اقتصادية ضخمة بين الدول الثلاث تحقق الكثير من المكاسب.
سوريا بالنسبة للدول الثلاث موقع استراتيجي غاية في الأهمية لا يمكن خسارته أبدا.. ويكمّن المفتاح بالطبع أو نقطة الخلاف الأساسية بالنسبة لروسيا وإيران وتركيا أن أي من هذه الدول الثلاثة لا تريد أن تبدو ضعيفة في المفاوضات، وترفض كذاك تسليم الهيمنة والسيطرة للأخرى على مناطق أوسع في الشمال السوري.. والأكيد أن روسيا وإيران ترفضان العملية العسكرية التركية من منطلق أنهما لن يقبلا بالتنازل عن أي ورقة قوة أو ضغط يملكانها على المستوى الإقليمي ضد أوروبا والغرب، وأيضا لتناقضها وتعارضها مع حضورهما ونفوذهما ومصالحهما في سوريا. هذا ناهيك أيضا عن أن أي عمل عسكري تركي في سوريا يهدد الطريق الدولي الواقع بين الحسكة واللاذقية مرورا بحلب والذي يقع تحت سيطرة “دمشق” لا سيما أن روسيا تعمل مع إيران لتركيز وجود عسكري سوري في المنطقة الحدودية بدعم من الأكراد. أما إيران ومن خلال المجموعات المتحالفة معها تنتشر في قريتي “نبل” و”الزهراء” على مقربة من “تل رفعت” فلا يمكنها التخلي عن الورقة السورية التي تعتبر الأهم في مساومتها على الأمن الإسرائيلي مع الولايات المتحدة وتستخدمها بقوة لإعادة إحياء الاتفاق النووي ووقف العقوبات المفروضة عليها. بينما تركيا العضو الأبرز في “الناتو” بعد الولايات المتحدة هي صاحبة الحضور الجغرافي المهم حيث انتزعت لنفسها مساحة فاعلة انطلاقا من دورها في سوريا لا تريد التنازل عنها إلا بمكاسب تعوض ما قدمته من تضحيات معنوية ومادية طيلة السنين الماضية.
والعبرة مما سبق، أنه إذا كانت الساحة السورية هي سباق لانتزاع مواقع نفوذ وفرض توازنات جديدة في الشرق الأوسط، فلا شك أن قمة “طهران” وضعت دراسة شاملة في ميزان تقييم المكاسب الكبيرة من التحالف في مقابل الخسائر بحال الخلاف والعناد على الحسابات الشخصية، وهو ما يضع الخلافات تسير في سكة التعافي بأبعاد استراتيجية كي لا تقع ضحية المصالح المتعاكسة والأجندات المتنازع عليها مع القوى الخارجية.
و”أنقرة” بدورها تبدو منفتحة على أي حل تضبط من خلاله مصالحها حتى وإن كان الثمن استبعاد أو تأجيل العمل العسكري الذي لا يمكن أن يتم بدون موافقة روسية أو أمريكية وحتى إيرانية.. ففي حال الإصرار على العملية، فهذا يعني أن تركيا مضطرة للاصطفاف إما مع روسيا أو أمريكا، والرئيس إردوغان بالتأكيد لن يقبل بهذه التكلفة الباهظة التي حاول بشتى الطرق تجنبها لحد الآن.
من الواضح أن قمة “طهران” حققت هدفها من خلال إثارة قلق الولايات المتحدة وإسرائيل خصوصا في جوانبها الأمنية حيث كشفت حاجة الروس للإيرانيينوالأتراك، وهذا التبادل في المصالح قد يكون خطيرا على أمريكا وإسرائيل على حد سواء خاصة وأن بوتين سعى إلى طرق جديدة للرد على العقوبات الأمريكية. وبدا هذا القلق واضحا من خلال تصريحات رئيس لجنة الشئون الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي رام بن براك الذي اعترف إن “إسرائيل تخشى أن يعوق التقارب الروسي-الإيراني عملياتها العسكرية في سوريا.. وتعتبر التقارب الروسي الإيراني بمثابة رد على جولة الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخيرة إلى المنطقة، ورد على وقوف إسرائيل إلى جانب أوكرانيا في الحرب”، وأضاف:”إسرائيل لا تخفي قلقها من أن التقارب بين البلدين من شأنه أن يمنح الشرعية لطهران ويعزز من مكانتها في المنطقةويزيد من حجم تعاونهما العسكري”. كذلك، ما يمنح قمة “طهران” أهمية استثنائية لدى الإسرائيليين أنها بحثت في الأساس الوضع داخل سوريا، جارتهم الشمالية بينما الروس الغارقين في حرب أوكرانيا يسابقون الزمن للحصول على مئات الطائرات بدون طيار إيرانية الصنع لتوسيع ساحات القتال.أما الإيرانيون الذين يعانون من وضع اقتصادي سيئ للغاية، فيسّعون للحصول على مساعدة اقتصادية من روسيا، في حين تبدو تركيا سعيدة بالانضمام للاتفاقيات الاقتصادية عدا عن أنها رأت في قمة “طهران” كرد فعل مضاد على جولة الرئيس الأمريكي جو بايدن في المنطقة.
في الختام، يمكن القول أن الهدف من وراء تسليط الضوء على القمة الثلاثية، هو إحداث شرخ جوهري في جميع المحاور والتحالفات التي تتشكل ضد الدول الثلاثة في مقابل إفساح المجال لتحالف جديد مقلق الغرب والولايات المتحدة بالتأكيد سيشد من أزر روسيا في صراعها مع أمريكا، ويعزز من يد إيران بالنسبة للعقوبات المفروضة عليها، ويعطي لتركيا مساحة أكبر للمساومات مع أوروبا والغرب في المسائل العالقة من خلال تطوير العلاقات مع روسيا وإيران على صعيد ثنائي ودولي وتنسيق مواقف مشتركة حول الأمن والطاقة والممرات التجارية والأسلحة لتعزيز أوراقها الرابحة.
[1]طه عودة أوغلو
المصادر
↑1 | طه عودة أوغلو |
---|