
بقلم/طه عودة أوغلو/باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية
8-7-2022م
بينما تصر تركيا على التلويح بشن عملية عسكرية في الشمال السوري ضد تنظيمات إرهابية مثل حزب “العمال الكردستاني” و”وحدات حماية الشعب الكردية” (قسد)، هناك الكثيرون ممن ما زالوا يطرحون هذا السؤال “لماذا كل هذا الإلحاح والإصرار التركي على القيام بهذه العملية؟”.. قد يكون سؤالا من باب الاستغراب إذا ما افترضنا النوايا الحسنة أو من باب الاستعباط لأن الحقيقة واضحة كنور الشمس بحيث لا يمكن حجبها بغربال.
ولمن لا يعلم؛ ثمة أسباب كثيرة لكن أكثر المبررات التي ترّد على لسان المسئولين الأتراك هي حفظ الأمن التركي الداخلي من الإرهاب القادم سواء من الحدود السورية أو العراقية أو الإيرانية.
لقد ابتلى القدر تركيا منذ أكثر من ثلاثة عقود بتنظيم انفصالي يسمى حزب “العمال الكردستاني”. وهذا التنظيم لا يحارب كما يزعم تحت توصيفات من مثل أن هناك “تفرقة عرقية بين الأتراك والأكراد في تركيا” ولا من أجل “مطالب ديمقراطية ومزيد من الحرية لأكراد تركيا” بل يحارب تركيا لحلم قديم يراوده بـ”الاستقلال الكردي” أي استقطاع أرض من تركيا، والانفصال عنها، وتأسيس دولة كردية ذاتية في جنوب شرق البلاد؛ يعني “احتلال الجغرافية” التي تقع بين سوريا والعراق وإيران. هذا باختصار هو المسعى الذي يركض خلفه منذ عام 1984 وحتى يومنا؛ تأسيس “دولة كردستان المستقلة”.
قبل أن تبدأ الحرب الطاحنة في العراق أو سوريا، كانت تركيا تحارب هذا التنظيم الانفصالي بمستوى حربي “منخفض الحجم”، وكانت قادرة على السيطرة عليه ومنع انتشاره في الداخل التركي بدعم من حكومتي “بغداد” و”دمشق” على اعتبار أن الهّم كان واحدا، والقتال مشتركا لمنع تقسيم أراضي الدول الثلاث. لهذا سمح العراق بموجب الاتفاقية الموقعة مع تركيا في سبعينات القرن الماضي في عهد الرئيس الراحل صدام حسين للجيش التركي بملاحقة “الكردستاني” داخل الأراضي العراقية. وهذه الاتفاقية ما زالت سارية إلى الآن إذ لم تقم أي من الحكومات العراقية المتعاقبة بإلغائها بل على العكس تم تجديدها وإضافة تفاصيل أخرى لها عام 2007 في زمن حكومة نوري المالكي. بالمثل أيضا اتفاقية “أضنة” مع سوريا التي تم توقيعها عام 1998، ووافقت “دمشق” بموجبها على التعاون مع تركيا في مكافحة الإرهاب العابر للحدود مع إعطاءها حق ملاحقة الإرهابيين في الداخل السوري حتى عمق خمسة كيلومترات، واتخاذ التدابير الأمنية اللازمة إذا تعرض أمنها القومي لخطر. حتى إيران الحليف الأقوى للنظام السوري والمنافس لتركيا في سوريا، أعربت، الأسبوع الماضي، على لسان وزير خارجيتها أمير حسين عبد اللهيان عن تفهمها لدوافع تركيا في العملية العسكرية المرتقبة في سوريا حين قال:”نتفهم أن عملية خاصة في سوريا قد تكون ضرورية”.
وبعد هذا التوضيح الموجز، هل هناك من لا يزال يصر على لوم تركيا لإصرارها على حماية أرضها وشعبها من الإرهاب، ومن طمع أولئك الذين يقفون ويدعمون هذه التنظيمات لتقسيم تركيا.
فمنذ أن استعر لهيب الحرب في العراق عام 2003، ومن بعده سوريا عام 2011، وهذه المنظمة الانفصالية تحاول بشتى الطرق اختراق أمن وأرض تركيا بدعم من قوى أوروبية وغربية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تخف تقديمها لكل أنواع الدعم العسكري لها تحت ذريعة محاربة تنظيم “داعش” في سوريا، مما فتح شهيتها أكثر على استكمال قتالها لتركيا والسعي وراء ربط الخط الواصل بين الشمال السوري وجنوب شرق تركيا خصوصا أن المعبر الحدودي خرج عن سيطرة “دمشق”، وتتحكم فيه القبائل والعشائر القاطنة على طرفي الحدود، مما يشكل خطرا كبيرا على وحدة أراضي سوريا وتركيا معا.
ومنذ عام 2016، نفذت تركيا أربع عمليات عسكرية في شمال سوريا ضد وحدات حماية الشعب الكردية التي تعد الذراع السوري لمنظمة حزب “العمال الكردستاني”، وتمكنت بهذه العمليات من ضبط التوازن حتى الآن لكن واضح أنها ما زالت في غير مأمن من إرهاب هذه التنظيمات، مما دعا الرئيس رجب طيب إردوغان مؤخرا إلى الإعلان عن نية تركيا باستكمال الأهداف التي وضعتها من خلال عملية عسكرية جديدة في شمالي سوريا، مؤكدا أنه “بمجرد اكتمال الاستعدادات على الحدود السورية، فإن العملية قد تنطلق في أي لحظة”.
والسؤال هنا: متى ستحين هذه اللحظة؟.. من المعروف أن إيران وروسيا اللذان يعدان إلى جانب تركيا من الضامنين لمسار “أستانة” ترفضان هذه العملية الجديدة، وتحاولان إقناع “أنقرة” بالتخلي عنها. كذلك الولايات المتحدة تعارض هذه العملية.. لكن واضح أن هذه الاعتراضات غير مقنعة لتركيا بدليل أن وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو أكد، الأسبوع الماضي، أن تركيا لن تتوانى في القضاء على أي تهديد يأتيها من الأراضي السورية، وأضاف:”عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي، لا يهم من يقول وماذا..تركيا تقوم بما هو ضروري في إطار القانوني الدولي.. بالتالي، لا يحق للولايات المتحدة أو روسيا قول أي شيء لتركيا فيما يخص العملية العسكرية بالشمال السوري”.
وعليه، كل الأنظار متجهة حاليا إلى الموعد الحاسم لبدء العملية العسكرية التي من المتوقع أن تتركز على بلدتي “تل رفعت” و”منبج” والقرى المحيطة بها الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد). صحيح أن التحضيرات الميدانية للعملية ليست صعبة في ظل الخبرات المتراكمة لدى الجيش التركي بحكم خوضه أربع عمليات سابقة تحت اسم “درع الفرات”، و”غصن الزيتون”، و”نبع السلام”، و”درع الربيع” لكن الأمر طبعا يحتاج بكل تأكيد إلى تحضيرات كبيرة ومهمة مثل توفير التوافقات السياسية الدولية وإحداث التوازنات الدبلوماسية المطلوبة مع الأطراف الفاعلة في سوريا وهي روسيا وأميركا بالدرجة الأولى منعا للتصادم بين هذه القوى ميدانيا ولأي منغصات على سير العمليات. بالتالي، فإن بطء التحضيرات الحالية لا يعني أن العملية العسكرية بعيدة لكنها تنتظر الوقت المناسب، وقد يكون هذا قريبا بالنظر إلى الحملة الدبلوماسية الخطيرة التي قامت بها تركيا على مستوى “الناتو” حين تمكنت من إدراج تنظيمات كردية مثل الكردستاني/الوحدات في قائمة “التنظيمات الإرهابية” المعترف بها رسميا داخل “الناتو” مقابل موافقتها على عضوية السويد وفنلندا، لأن هذه الخطوة ستجبر دول “الناتو” على الأقل بعدم معارضة تركيا في حربها على الكردستاني وميليشا “قسد” في الشمال السوري، ويعطيها المشروعية الكاملة لذلك. كذلك الأمر، بالنسبة لإيران إذ قد تكون زيارة وزير الخارجية الإيراني قبل أيام لتركيا والتصريحات الإيرانية بتفهم حق تركيا أن تكون بأمان مؤشر أيضا لإصرار تركيا على العمل العسكري. لكن برأيي أن القول الفصل في هذا الموضوع قد يأتي بعد الزيارة المرتقبة للرئيس إردوغان إلى إيران في 19 يوليو/تموز الجاري إذا أخذنا بعين الاعتبار الحديث عن مساعي “طهران” لبدء عملية مصالحة بين حكومة إردوغان والنظام السوري.
وهنا السؤال الكبير: هل هناك إمكانية لترتيب لقاء سري بين الرئيس إردوغان وبشار الأسد في إيران خصوصا بعد التصريحات التي صدرت من وزير الخارجية الإيراني خلال مؤتمر صحفي عقده مع نظيره السوري في العاصمة “دمشق”، السبت الفائت، من أن بلاده تعمل على إيجاد حل سياسي لثني تركيا عن العملية العسكرية، وتأكيده أنهم سيبذلون قصارى جهدهم الدبلوماسي لذلك.
من يدري!!.. فالدول يمكن أن تعّدل سياساتها حسب ما تمليه مصالحها، والسياسة حقل مليء بالمفاجآت التي قد تبّدل عداوات وتغير مواقف..لهذا، يبدو أن ملامح العمل العسكري التركي المحتمل سوف تتضح أكثر بعد عودة الرئيس إردوغان من إيران.