مقالات كتّاب

مفتاح اللغز وراء مؤشرات عودة الدفء للعلاقات التركية-الأمريكية

طه عودة

بقلم/طه عودة أوغلو /باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية[1]خاص- سراي بوست

على الرغم من المحطات الصعبة وطابع الخلاف والتوتر الذي غلب على العلاقات التركية-الأمريكية في السنوات الأخيرة ووصل بحسب كبار المسئولين الأتراك، إلى حد دخول “واشنطن” في مخطط حصار تركيا سياسيا واقتصاديا إلا أن كل المؤشرات الأخيرة تؤكد أن كلا الطرفين ذهبا إلى تعديل مواقفهما تدريجيا، وتجاوز مرحلة التوتر التي كانت الأخطر في تاريخ العلاقات بين البلدين.

بالطبع، هناك أسباب عديدة أدت إلى تغيير منعطف الأزمة وساهمت جديا في إقناع إدارة بايدن بضرورة تغيير أسلوبها واختيار النهج الدبلوماسي مع تركيا، ولعل أهمها على الإطلاق، تلك الحرب الروسية-الأوكرانية التي تجاوزت فجأة بتداعياتها وتبعاتها الأمنية والاقتصادية الواسعة والمخيفة حدود البلدين، فكانت بمثابة هزة عنيفة للفكر والاستراتيجية الإقليمية والدولية لتضع دول العالم بأسرها أمام ضرورة عاجلة لإعادة خلط الأوراق وترتيبها بشكل يدعم ثقلها وموقعها وتحالفاتها في المنطقة.

ما زالت “أنقرة” تحتفظ بذكريات سيئة عن بداية العلاقة مع إدارة جون بايدن الذي انتهج منذ أن وطأت أقدامه البيت الأبيض في عام 2020 سياسات معادية لتركيا وخصوصا زعيمها رجب طيب إردوغان حين تحدث في أحد لقاءاته مع صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن رؤيته للعلاقات مع إردوغان وخططه للإطاحة به عبر الانتخابات بقوله “نحن سنشجع المعارضة على مواجهة إردوغان وهزيمته في الانتخابات المقبلة”. وفي نفس الحوار، يقول بايدن أن “الولايات المتحدة تحتاج للعمل بجدية أكبر مع الحلفاء لعزل أفعال إردوغان في المنطقة خاصة بالشرق الأوسط، وتنقيبه عن النفط هناك إلى جانب قضايا أخرى”.

هذه التصريحات المعادية من الهرم الأمريكي والتي تنبئ بمخططات غير حميدة لمستقبل قادة الشرق الأوسط، لم تدق ناقوس الخطر في “أنقرة” وحسب بل وسُمعت رناتها لدى كل دول المنطقة لتدفعها إلى إعادة صياغة سياستها والشروع في إنهاء علاقاتها العدائية مع بعضها البعض وترميم تحالفاتها حتى لا تجد نفسها وحيدة أمام القوة العظمى في العالم، لتبدأ مرحلة تذويب الثلوج أولا بين المملكة العربية السعودية وقطر وبين الدول الخليجية وإسرائيل، والإمارات وتركيا الخ..

بالنسبة لتركيا، فقد أعادت تموقعها في قلب اللعبة من خلال فك نقطة الانسداد مع “واشنطن” لتجعل المصالحة مع دول المنطقة مثل السعودية والإمارات وأرمينيا وحتى اليونان مرتكزا لخط سياسي جديد يتجه نحو الحوار والتعاون. كما ذهبت أيضا إلى أبعد من ذلك بسعيها لإظهار دفء واضح في العلاقات الثنائية مع الطفل المدلل للولايات المتحدة، وتثمين هذا المكسب من خلال جمع المصالح البراغماتية والتعاون في مشروع خط أنابيب الغاز كبديل لإمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا التي تتطلع بدورها إلى تنويع مصادر الغاز بعيدا عن السيطرة الروسية.

وهذا ما أشار إليه الرئيس إردوغان عندما شدد على أن “التعاون في مجال الغاز هو أحد أهم الخطوات التي يمكن أن نتخذها لتحسين العلاقات مع إسرائيل”. والمعروف أن هذا المشروع الضخم يتمثل بإنشاء خط أنابيب تحت سطح البحر من تركيا إلى حقل “ليفياثان” الذي يعد أكبر حقل للغاز الطبيعي البحري في إسرائيل والذي يمد إسرائيل والأردن ومصر بالغاز.

بطبيعة الحال، هذه الخطوات التركية بتخفيف الاحتقان سواء في العلاقات مع دول المنطقة أو بتنقيبها على النفط والتي ربما أهمها على الإطلاق التقارب مع إسرائيل، لقت استحسانا كبيرا لدى إدارة بايدن وقدمت فرصة كبيرة لإصلاح الضرر الذي لحق بالعلاقات التركية-الأمريكية.

وأخيرا، جاءت الحرب الروسية-الأوكرانية، لتكلل هذا التقارب، وليبدو واضحا أن إدارة جون بايدن قررت التخلي عن سردية معاداة لتركيا والمباشرة بإعادة ربط حبل الوصال الاستراتيجي مع تركيا التي لمع نجمها خلال هذه الحرب كحليف لا يمكن الاستغناء عنه من خلال استضافتها للمحادثات الروسية-الأوكرانية التي شغلت أجندة العالم كله، ونهوضها بدور الوساطة المتوازنة لتهدئة الأوضاع. أيضا، يمكن القول أن من فوائد هذه الحرب أنها أعادت نسج خيوط الثقة التي انقطعت في السنوات الأخيرة بين “أنقرة” و”واشنطن” على خلفية الشرخ الكبير الذي حدث بسبب شراء تركيا لنظام الدفاع الجوي الروسي “أس-400” الذي ترى وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” بأن تفعيل منظومة الصواريخ الروسية من شأنه الإضرار بمقاتلات “إف-35” وراداراتها وأجهزة الكمبيوتر بها، ما دفعها إلى استبعاد تركيا من اتحاد مصنعي المقاتلات المتطورة من طراز “إف-35″، إلا أن هذه الحرب التي أحسنت تركيا في إدارتها من خلال مواقفها المتزنة مع كل الأطراف، جاءت ربما بمثابة اختبار بالنسبة لواشنطن لتثبت أن “أنقرة” ما زالت حليف موثوق يمكن الاعتماد عليه بعد سنوات من الشكوك، ويتحول مركز الثقل في العلاقات الثنائية مرة أخرى وبسرعة من الشرق الأوسط إلى أوروبا كما كان خلال الحرب الباردة.

لا شك أن تفعيل تركيا بعد 4 أيام فقط من الحرب الروسية-الأوكرانية لاتفاقية “مونترو” التي تسمح لها بالتحكم في عبور السفن الحربية التابعة لدول في حالة حرب من مضيقي البوسفور والدردنيل والتي استطاعت من خلالها الحد من حركة السفن الحربية الروسية بين البحرين المتوسط والأسود، غيّر كثيرا من قواعد اللعبة في العلاقات التركية-الأمريكية، وأنعش ذاكرة “واشنطن” أن تركيا قوة استراتيجية لا يستهان بها في الشرق الأوسط، وبأن من مصلحة أمريكا أن تبقى “أنقرة” راسخة بقوة في المعسكر الغربي وليس أن تقف ضده مع روسيا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تقليص القوة والهيمنة الروسية في المنطقة والعالم تمثل أولوية استراتيجية لإدارة بايدن.

ربما هذا ما دفع بايدن إلى الإعلان  عن ترحيبه وإشادته في مكالمة هاتفية أجراها، الشهر قبل الماضي، مع نظيره التركي إردوغان بموقف “أنقرة” القوي الداعم لحكومة أوكرانيا وشعبها. ولقد لاحظنا أيضا كم اللقاءات الكبير الذي حدث بين الطرفين خلال الأسابيع الأخيرة الماضية حيث تزايدت زيارات ممثلي الولايات المتحدة واجتماعهم مع نظرائهم الأتراك، واستقبال الرئيس الأمريكي اللافت للسفير التركي في البيت الأبيض، وزيارات شخصيات هامة من وزارة الخارجية الأمريكية إلى تركيا والرسائل التي قدموها بشأن حل أزمة”أس-40″ ووضعها فوق الطاولة للمناقشة، والمحادثات الجارية بشأن شراء مقاتلات “إف-16” بدلا من “إف-35″، وإعراب إدارة بايدن مؤخرا عن دعمها لهذا المشروع على أساس أن “أنقرة” دفعت بالفعل ثمن شرائها صواريخ “أس-400″، وبأن هذه الصفقة تخدم المصالح الأمريكية، وتعزز وحدة حلف شمال الأطلسي ناهيك عن أن تركيا تدعم أوكرانيا عسكريا أيضا،  وأخيرا، إطلاق الآلية الاستراتيجية بين “أنقرة” و”واشنطن”.

في الخلاصة، يمكن القول أن كل هذه التطورات المهمة ولغة المصالح المتبادلة ساهمت بإعادة ضبط بوصلة العلاقات التركية-الأمريكية لتظهر أن الوقت قد حان بالفعل لطي صفحة الخلافات خصوصا بالنسبة لحكومة الرئيس إردوغان الذي يواجه منافسة ليست بسهلة أبدا مع خصومه من أحزاب المعارضة، في وقت يتسابق فيه مع الزمن لإخراج تركيا من مشاكلها الاقتصادية قبل انتخابات يخوضها، العام المقبل، يؤكد جميع الخبراء والاستطلاعات بأنها ستكون الأصعب بالنسبة له.

المصادر

المصادر
1 خاص- سراي بوست