25 مايو، 2025 | 12:11 صباحًا
أخبار دوليةسياسة حول العالم

مابين روسيا وأوروبا ..من السلاح الأقوى؟ سلاح العقوبات أم الغذاء! بقلم ” طه عودة ” .

بينما لا زالت الحرب الروسية-الأوكرانية تطغى بكل ثقلها ومصالحها المعقدة على الأجندة العالمية، فإن زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى تركيا قبل يومين والتي كانت بالدرجة الأولى لمناقشة جهود وإمكانيات إنهاء الحصار الروسي على الموانئ الأوكرانية للتخفيف من وطأة شح الغذاء العالمي، جاءت لتكشف بكل واقعية أن روسيا لا زالت في موقع القوة المطلقة أمام كل الضغوطات التي تتعرض لها دوليا، بالنظر إلى أنها لم تأت لغاية الآن بأي تأثير فعلي على الأرض.

إذا ألقينا نظرة سريعة على العقوبات الدولية التي فُرضت على روسيا للإضرار باقتصادها ومواردها أملا بإيقاف حربها على أوكرانيا، فيمكن تلخصيها بحزمة إجراءات عقابية شملت قطاعات متنوعة سياسية ومالية واقتصادية وعسكرية وحتى إعلامية ورياضية مثل حظر الصادرات النفطية، إغلاق مجالات جوية أمام الطائرات الروسية وفي أماكن أخرى الشحن البحري، تكبيل القطاع المصرفي، إدخال ضوابط على تصدير السلع والبضائع عالية التقنية مع التركيز بشكل خاص على الالكترونيات والاتصالات وقطع غيار الطائرات والمعدات اللازمة لتحديث مصافي النفط الروسية بالإضافة إلى تجميد أصول كيانات ومؤسسات وبنوك مملوكة للدولة وحظر سفر لشخصيات مهمة على رأسهم الرئيس فلادمير بوتين إلى الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.

في المقابل، ردت روسيا عمليا بسلسلة من العقوبات المماثلة ولكن.. هنا نقف عند كلمة “ولكن” لأنها تحمل كثير من المعاني التي لم يبدأ العالم بفك شفرتها الخطيرة وتداعياتها الكارثية إلا الآن.

هذه العقوبات الدولية بكل أدواتها تبدو أنها لا تأخذ سوى “طابع التهديد” فقط.. فكما رأينا أن تطبيقها التدريجي على روسيا منحها الوقت الكافي للتكيف معها، وإيجاد مخارج أخرى لها، وحل مشاكلها اللوجيستية وتغيير قاعدة عملائها بمرونة مذهلة استوعبت فيها كل الصدمات في وقت قصير جدا. بالتالي، لم يكن لها ذلك التأثير القوي لا على قطاع النفط الروسي ولا على اقتصاده، بدليل أن العالم هو من يشكو ويبكي اليوم وليست روسيا.

نعم؛ الإجراءات والعقوبات التي يطبقها المجتمع الدولي “قاسية” لكنها بالتأكيد لا ترقى إلى درجة إخضاع روسيا لمطالبهم.. فبكل بساطة، إذا كانت أوروبا والغرب يحاصران روسيا بالنفط وبعض الأدوات الاقتصادية والعسكرية بغرض لوي ذراعها، فإن روسيا أصابت العالم بالشلل حين حاصرته بأنجع سلاح على الإطلاق “سلاح أمن الغذاء” الذي يهدد بمجاعة عالمية. وهذا السلاح الروسي، لا يتحدى حكومات العالم وحسب بل هو لوحده كفيل بتأثيراته في إحداث دمار شامل بتحريك وتأليب الشعوب على حكوماتها مهما كانت قوية النفوذ في دولها.. روسيا باستراتيجيها الذكية طورت هذا السلاح خلال الأشهر القليلة الماضية إلى مدفعية ثقيلة تطلق الرصاص السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني والاجتماعي بشكل عشوائي على كل العقوبات التي تستهدفها لتصيبها في مقتل، بدليل أن كل أنظار العالم بحكوماتها وشعوبها كانت متوجهة نحو الاجتماع “الحياتي” الذي استضافته تركيا بالأمس أملا بحدوث انفراجة بشأن أزمة القمح العالمية لتجنب أي نقص محتمل في الغذاء، فمنذ الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، سجلت أسعار القمح وزيت الطهي والأسمدة والطاقة مستويات قياسية على اعتبار أن روسيا وأوكرانيا تشكلان معا ما يقرب من ثلث صادرت القمح العالمية. فأوكرانيا تعد الدولة الرئيسية المصدرة للذرة والشعير وزيت دوار الشمس وزيت بذور اللفت، في حين أن روسيا وروسيا البيضاء (التي تدعم موسكو في الحرب وتخضع أيضا لعقوبات)، تصدران أكثر من 40 بالمائة من الصادرات العالمية من أسمدة “البوتاس” الذي يغذي المحاصيل.

وهنا مربط الفرس حيث أن كل الدول التي سعت لفرض عزلة دولية على روسيا والضغط على الرئيس بوتين لإيقاف الحرب بدأت الآن تشعر بأنياب الدب الروسي تحاصرها إذ تؤكد الأخبار الواردة من أوكرانيا أن المهلة الزمنية بدأت تنفذ فيها بسبب عدم وجود مساحة تخزين كافية لموسم الحصاد القادم، ابتداء من نهاية يوليو/تموز. أيضا، وفقا لأحدث تقرير صادر عن برنامج الغذاء العالمي، فقد حذر من أزمة مجاعة عالمية جراء نقص الحبوب بسبب الحرب الأوكرانية خصوصا في الدول الفقيرة التي يعتمد بعضها على روسيا وأوكرانيا في توفير أكثر من نصف وارداتها من القمح. كما أن ارتفاع الأسعار يجبر وكالات الأمم المتحدة على خفض الحصص الغذائية للاجئين بما يصل إلى النصف في أجزاء من منطقة الساحل الأفريقي بسبب النقص الهائل في التمويل. بالمثل أيضا، حذر رئيس البنك الدولي ديفيد ماتياس من كارثة إنسانية، فيما حذرت منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) من أن نحو 220 مليون شخص سيواجهون الجوع وانعدام الأمن الغذائي خلال العام الجاري مع استمرار الحرب الأوكرانية وظهور تداعياتها على سوق الغذاء العالمي. كما رأينا أيضا المحاولات المستميتة للأمم المتحدة التي تدخلت عن طريق أمين عامها أنطونيو غوتيريش لإبرام صفقة مع روسيا وتركيا ودول أخرى لفتح الباب أمام صادرت الحبوب الأوكرانية من البحر الأسود إلى الأسواق العالمية. غوتيريش الذي حذر كذلك من مجاعة عالمية قد تستمر لسنوات، طالب “موسكو” بالسماح والإفراج عن بعض شحنات الحبوب الأوكرانية مقابل تسهيل الصادرات الروسية والبلاروسية من أسمدة “البوتاس” على اعتبار أن هاتين الدولتين هما الموردين الرئيسين لهذا السماد المغذي للنبات والذي يضمن محاصيل عالية الجودة بمناطق كثيرة في العالم.

خلاصة الكلام، على الرغم من كل ما بدا من مرونة روسية في مفاوضات فتح ممر آمن للحبوب العالقة في موانئ البحر الأسود وأيضا التصريحات الإيجابية التي صدرت من وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو من أن “الاجتماع كان مثمرا” مع وضع عبارة “لكن هناك حاجة لمزيد من المحادثات”، وأيضا بالرغم من أن تركيا، وهي القوة الرئيسية الأخرى في البحر الأسود، أعربت عن استعدادها لاحتواء الشروط الروسية بهدف تخفيف أزمة الغذاء العالمية عبر المشاركة القوية في عملية إزالة الألغام من البحر وإدارة حركة الشحن لكن من الواضح أن هناك عقبات كبيرة ما زالت تقف في طريق إتمام الاتفاق..فالمنطق السليم يؤكد أن روسيا “عبقرية الاستراتيجية الدولية” لن تتخلى بكل تأكيد عن أقوى سلاح عالمي في يدها والمتمثل بـ”الأمن الغذائي” في معركتها مع العقوبات الدولية قبل أن تحقق كل الأهداف التي وضعتها قبل بدءها هذه الحرب ولعل أهمها على الإطلاق هو ما أعلنه “الكرملين” بنفسه من أن “استئناف عمليات الشحن يتوقف على إنهاء العقوبات”.. لذلك، روسيا سوف تلعب دائما على شروط غير مقبولة سوف يصعب على أحد أطراف الأزمة تقبلها بدليل أن رد “كييف” على تصريحات لافروف لم يكن إيجابيا حين أعلنت حاجتها إلى “ضمانات أمنية فعالة” قبل أن يكون ممكنا لها بدء أعمال الشحن، معربة عن مخاوفها من أن “موسكو” قد تستخدم الممر المحتمل في مهاجمة ميناء “أوديسا”.. وحتى إذا تم التوصل لاتفاق فمن المرجح أن تكون تكلفة التأمين لأي سفينة تعبر في ممرات الشحن بالبحر الأسود مرتفعة للغاية. وهذا يعني أن الاستراتيجية الروسية تقوم على المماطلة واللعب على الوقت ومواصلة عملية إلقاء الكرة في ملعب الآخر لإطالة أمد الأزمة واستنفاذ طاقة وصبر العالم إلى حين رفعه الراية البيضاء