اقتصاد تركيا

الاقتصاد التركي داخل “حلقة صعبة الكسر” والسبب؟

تواجه تركيا منذ أكثر من عامين هزّات اقتصادية متعاقبة، وبينما تتدهور فيه قيمة الليرة التركية شيئاً فشيئاً في سوق العملات الأجنبية، يواجه المواطنون “غلاءً فاحشاً” في أسعار المواد الغذائية التي يحتاجونها بشكل يومي، حتى أصبحت الشغل الشاغل لهم.

يعتبر متجر “بيم bim” أكثر الوجهات التي يقصدها المواطنون الأتراك لشراء متطلباتهم، نظراً للأسعار المقبولة التي يخصصها لبيع المنتجات الغذائية، لكن هذا الأمر بات يختلف لدى يلماز الذي يعمل في مصنع لإنتاج الأحذية في حي أفجلر بمدينة إسطنبول. [1]الحرة

يتلقى يلماز راتبا شهريا بقيمة 5 آلاف ليرة تركية، ويقول في حديث لموقع “الحرة”: “كل شيء يطير في تركيا. بين الفترة والأخرى تختلف الأسعار، والأشياء التي كنت أخطط لإنجازها في المستقبل لم تعد على حالها. الآن أفكر في كل يوم بيومه”.

ويضيف يلماز أن ما يعيشه قد ينطبق على آلاف العمال الأتراك في البلد، مشيرا: “ليس في إسطنبول فحسب بل في مختلف الولايات. هناك أزمة باتت يلاحظها الجميع ولا نرى أي أفق حتى الآن”.

وقبل أسبوعين وصلت قيمة الليرة التركية إلى حاجز 9.8 مقابل الدولار الأميركي الواحد، بعد توجه البنك المركزي التركي لتخفيض سعر الفائدة، من أجل مكافحة التضخم، وهذه السياسة تحاول الحكومة التركية تطبيقها، في مسعى لمحاربة “أب وأم الشرور”، كما وصفها سابقا الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان.

لكن، وفي المقابل، تشير أحزاب المعارضة وبيانات رسمية إلى أنه، وعلى الرغم من المسار الذي تسلكه الحكومة في مواجهة التضخم، إلا أن ذلك يعزز سلسلة من الضربات السلبية، الأمر الذي سينعكس على المواطن التركي.

وحتى الآن تغيب تفاصيل المشهد الاقتصادي الذي ستقبل عليه تركيا في المرحلة القادمة، فيما تحاول أحزاب المعارضة التركيز على هذه الجزئية التي تمس حياة المواطن، في سياق يراه محللون يندرج ضمن المناكفات السياسية، التي تستبق الانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو 2023.

ماذا تقول الأرقام؟

في آخر إحصائية لمعهد الإحصاء التركي (tuik) بلغ معدل البطالة في البلاد 12.1 بالمئة في أغسطس 2021، دون أي تغيير قياسا بالشهر الذي سبقه.

أما عدد العاطلين عن العمل فقد ارتفع بمقدار 11 ألفا مقارنة بشهر يوليو، حيث بلغ 3 ملايين و965 ألفا.

وبحسب الإحصائية الرسمية انخفض عدد المشتغلين 14 ألفا في أغسطس 2021 مقارنة بالشهر السابق، وأصبح 28 مليونا و706 ألف عامل، بينما انخفض معدل التشغيل بنسبة 0.1 نقطة مئوية إلى 45.0 في المئة.

وإلى جانب ذلك تشير دراسة لاتحاد النقابات العمالية في البلاد إلى أن أسعار المواد الغذائية في العاصمة أنقرة ارتفعت بنسبة 1.45 في المئة شهريا و24.61 سنويا، وذلك في أكتوبر 2021.

ووفقا لنفس الدراسة كان حد الجوع 3.093.20 ليرة تركية، وخط الفقر 10.075.58 ليرة تركية، في أكتوبر، ويشير الاتحاد العمالي إلى أن خط الفقر في تركيا تجاوز للمرة الأولى في البلاد مستوى 10 آلاف ليرة تركية.

لكن، وعلى الطرف الآخر، تقول الحكومة التركية إن البلاد تشهد نموا كبيرا، وسبق أن قال المتحدث باسم الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون إن اقتصاد تركيا سجل نمواً تاريخياً في الربع الثاني من العام الحالي.

وأوضح ألتون، بحسب ما نقلت وكالة “الأناضول” أن هذا أكبر معدل نمو على مستوى ربع عام في تاريخ تركيا، مشيراً إلى أن تركيا “في ظل قيادة ورؤية الرئيس رجب طيب أردوغان، ستواصل النمو وتصبح أقوى مع السياسات الناجحة للإدارة الاقتصادية على رأسها وزارة الخزانة والمالية”.

وتعد هذه النسبة الأعلى بين الأرقام المسجلة والمعلنة منذ عام 1999، وفق بيانات معهد الإحصاء التركي.

دائرة يصعب كسرها

على مدى العامين الماضيين وبينما كانت الأزمات الاقتصادية تتعمّق في البلاد ذهبت شركات بحثية لالتماس آراء المواطنين في الشارع، وتقييماتهم بشأن ما تمر به تركيا اقتصاديا وسياسيا أيضا.

ورغم غموض تبعية تلك الشركات، والجدل القائم حول صحة ما تنشره، فقد أشارت في معظمها إلى انخفاض ملحوظ في شعبية الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) وحليفه “الحركة القومية”، الأمر الذي قد ينعكس على سباقه الانتخابي المرتقب.

وبينما يلقي يلماز، الذي تحدث إليه موقع “الحرة”، باللوم على الحكومة التركية كونها الجهة التي تتسلم مقاليد السلطة يضيف مستدركاً: “هناك حروب خارجية تمارس على تركيا، وهذا الشيء يجب أخذه بالحسبان”.

ويشير يلماز (35 عاما)، الذي تعود أصوله إلى طرابزون لكنه يقيم في إسطنبول من أجل العمل: “بالنسبة لي لم أحدد بعد لمن سأعطي صوتي خاصة أن أحزاب المعارضة لا تجيد سوى الكلام. سننتظر ما ستحمله الأشهر المقبلة لنا”.

وبالمنظور العام تحاول الحكومة التركية منذ مدة التركيز على المشاريع الاستثمارية الكبيرة التي تسير بها في تركيا، التي تشمل مختلف القطاعات.

وبينما تنقد أحزاب المعارضة المسار الاقتصادي الذي يسلكه أردوغان “لم تقدم برامج واضحة قد تجذب إليها المواطنين”، بحسب الباحث السياسي، هشام جوناي.

ويقول جوناي لموقع “الحرة”: “هناك أزمة اقتصادية مستمرة منذ زمن في تركيا. حقيقة نرى تذمراً من الشارع التركي حيال الغلاء في الأسعار، ليس فقط في المنتجات الغذائية، بل في الكهرباء والغاز الطبيعي”.

ويضيف الباحث التركي: “نحن مقبلون على الشتاء. هذه الزيادة ستؤثر بشكل مباشر على المواطنين، وهذا يدعو ويستوجب حلاً عاجلاً من قبل الحكومة”.

“ما نراه من الحكومة أن وضعها صعب في مواجهة هذه الموجة من الغلاء، لأن أسعار الفائدة المرتفعة تؤثر بالأصل على التضخم. بالتالي التضخم يؤثر بشكل مباشر على المواطن”.

ويتابع جوناي: “أعتقد أن هذه الدائرة كسرها صعب إن لم يكن هناك دعم خارجي، وقرض من صندوق النقد الدولي أو قرض ينعش الأسواق التركية”.

هل تستفيد المعارضة؟

لا تختلف حالة الشاب التركي يلماز عن آخرين، سواء من العمال أو حتى أرباب العمل.

حسين أيدن يعمل منذ 4 أعوام في تجارة السيارات بمدينة إسطنبول، ويقول لموقع “الحرة”: “انخفاض قيمة الليرة الحاصل ألقى بظلاله علينا كتجار وعلى المواطنين الذين يحاولون شراء سيارة بأرخص الأسعار”.

ويشير أيدن إلى ركود يشهده سوق السيارات منذ نحو شهرين، موضحا: “أعتقد أن شريحة لا يستهان بها من المواطنين لن يكون بمقدورها شراء سيارة في المرحلة المقبلة. الأسعار تحلق مع انخفاض سعر الليرة، وفي المقابل ما نبيعه بالدولار”.

وبحسب أيدن: “الأزمة التي نعيشها الآن لا تخص فقط القطاع الذي نعمل فيه. هناك انعكاسات على مختلف القطاعات، وخاصة المواد الغذائية وأسعار الوقود وفواتير الكهرباء”.

من جانبه يعتقد الدكتور مسلم طالاس، خبير اقتصادي ومحاضر في جامعة ماردين، أن المشكلة بالنسبة للاقتصاد التركي تكمن في ضعف الادخار، “نتيجة انخفاض إنتاجية العامل التركي”.

ويضيف لموقع “الحرة”: “هذا يؤدي إلى الاعتماد على الاقتراض من الخارج، يجعل الاقتصاد رهنا لتقلبات الميزان التجاري والعلاقات الدولية السياسية”.

أما المشكلة الثانية وفق طالاس: “هي تجاهل الفريق السياسي الحاكم لمنطق الاقتصاد الطويل الأجل والتركيز على المكاسب الآنية السياسية والأيديولوجية القصيرة الأجل (مشكلة الفائدة)”.

والمنطق المذكور “يعقد المشكلة أكثر وأكثر”، وفق طالاس الذي يشير: “بالنسبة للمستقبل يبدو الاقتصاد التركي سائرا نحو المزيد من التضخم وهبوط العملة، مما سيضعف الاستثمار والنمو الاقتصادي”.

هل هناك تأثير سياسي؟ 

في تصريحات له الاثنين قال زعيم “حزب الديمقراطية والتقدم”، علي باباجان منتقدا السياسة الاقتصادية التي يسير عليها أردوغان: “حتى لو حصل 10 اقتصاديين على جوائز نوبل فلن يتحسن الاقتصاد أبدا من دون رحيل أردوغان”.

وهذه العبارات سبق أن رددتها بقية الأحزاب المعارضة في تركيا، من بينها “حزب الشعب الجمهوري”، الذي يتزعمه كمال كلشدار أوغلو، حيث قال قبل أيام: “الأمر لن يستمر طويلا، عليكم بالصبر. ربما تكونوا جائعين، ربما تعانون من انقطاع الكهرباء، أو يتم القبض عليكم وتدخلون السجن. فقط اصبروا، فهذا لن يستمر طويلا”.

وبدوره يقول الباحث السياسي، هشام جوناي إنه، ووفقا لاستطلاعات الرأي، فإن “العدالة والتنمية” والحركة القومية يواجهان تراجعاً في أصواتهما.

ويضيف: “لكن هذا التراجع لم يصل إلى النسبة التي قد تستفيد منها المعارضة. حسب الاستطلاعات هناك تراجع في أصوات الحكومة لكن لا يوجد ارتفاع ملحوظ في أصوات المعارضة”.

ويشير ذلك بحسب الباحث إلى أن “المواطن يريد تغيير، لكنه لا يرى في المعارضة بديلا عن الحكومة. لا يوجد برنامج يقنع المواطن بجدوى تسلم المعارضة الحكم، وتحسين الواقع الاقتصادي”.

أما الباحث السياسي، إسلام أوزكان فيقول إن “الملف الاقتصادي في تركيا يشكّل 90 بالمئة من المحددات الأساسية في أي انتخابات، سواء المقبلة أو التي سبقتها”.

ويضيف لموقع “الحرة”: “بالنسبة للناخبين الأتراك. طبعا الوضع الاقتصادي في المرحلة المقبلة سيكون أسوأ بكثير على ما يبدو، حيث لا يوجد هناك أي عنصر يدفعنا للتفاؤل بشأن مستقبل الوضع الاقتصادي”.

واعتبر الباحث أن “الكوادر التي تدير البلاد تفتقد الكفاءة من أجل تحسين ذلك، وإن وجدت تلك الكفاءة فلا تستطيع فعل شيء، بسبب موقف أردوغان وتدخله بشكل مباشر في الأوضاع التي تستدعي خبرة وتخصص”.

وتحدث أوزكان عن “تململ شعبي من الأوضاع غير المستقرة في تركيا من ناحية الواقع الاقتصادي”.

ويتابع: “هناك مشكلات كبيرة جدا مثل ارتفاع سعر الدولار بشكل متزايد وانخفاض الليرة التركية بشكل متدرج. هناك تضخم مالي كبير جدا. نسبة بطالة عالية بين صفوف المتخرجين من الجامعات. بين المثقفين والمتعلمين. هذه المؤشرات سيئة”.

واعتبر أوزكان أن هذه المؤشرات “ستنعكس على الانتخابات”، مشيرا: “معظم استطلاعات الرأي العام تشير إلى أن القاعدة الشعبية وأصوات العدالة والتنمية تذوب يوما بعد يوم”.

“التململ مزدوج”

وفي غضون ذلك يشير المواطنون والباحثون، الذين تحدث إليهم موقع “الحرة”، إلى أن “الاقتصاد” بات يشكّل الحديث اليومي في البلاد، في ظل “مخاوف من الأسوأ”، وخاصة من جانب السواد الأعظم من محدودي الدخل.

ويرى هؤلاء أن الملف الاقتصادي سيكون التحدي الأكبر الذي يواجه إردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة، وسط ضبابية عما ستكون عليه الأشهر الـ20 التي تفصل عن موعد انتخابات يونيو 2023.

وبالتالي سيكون “الوضع الاقتصادي” العنوان الأبرز لمشهد تركيا المقبل. عنوانٌ لا يقتصر ترديده على لسان مسؤولي الحزب الحاكم فقط، بل من جانب كافة شرائح أحزاب المعارضة.

ويرى الخبير ورجل الأعمال التركي، علاء الدين شنكولر، أن التململ الشعبي الحاصل في البلاد مرده “أشياء كثيرة”.

ويوضح ذلك بالقول: “منذ 20 عاما يعيش المواطنون مع هذا الحزب وهذا الرئيس، وفي المقابل تعمل المعارضة بشكل مخرب. لا يفكرون لا في اقتصاد البلد ولا في مصلحة البلد خارجا أو داخلا”.

ويضيف شنكولر لموقع “الحرة”: “المواطنون يريد تغييرا لكن لا يرون بديلا عن العدالة والتنمية”.

واعتبر الخبير الاقتصادي أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا الآن لا يمكن اعتبارها فردية وحالة خاصة، مشيرا: “الدليل على ذلك أن العملة الوطنية للدول الكبيرة مثل الصين واليابان والبرازيل منخفضة، ومع ذلك الحكومات فيها غير منزعجة”.

من جهة أخرى لا يوافق شنكولر على الفكرة القائلة إن “العملة شيء والاقتصاد شيء آخر”، موضحا: “هناك علاقة ولو كانت بسيطة، لكن بهذا الانخفاض لا يتدهور اقتصاد أي بلد”.

ويتابع: “نحن الأتراك نعرف ماذا يعني التدهور، خاصة في التسعينيات وبداية 2001. عاش البلد في ليلة واحدة تدهورا بقيمة 60 بالمئة. حينها أفلست البنوك والشركات، وتوقف الإنتاج والمصانع”.

وفي تعليقه عن الأثر السياسي الذي ستفرضه الأزمات الاقتصادية الحالية، يرى رجل الأعمال التركي أن “كل تطور سلبي لا شك أن له تأثيرا على الساحة السياسية وتغير الحكومات، وخسارة بعض الأحزاب من قدرتهم في الحكم واستمراريتهم في الانتخابات المقبلة”.

المصادر

المصادر
1 الحرة