الاتفاق الروسي-الأوكراني لتصدير الحبوب؛ إنجاز تاريخي لتركيا سيبقى محفورا في ذاكرة العالم
بقلم/طه عودة أوغلو/باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية
29-7-2022م
بدون أي مبالغة، دخلت تركيا، وبكل ما للكلمة من معنى، التاريخ من أوسع أبوابه باعتبارها الدولة التي ساهمت بكل ما تملك من مواهب دبلوماسية وفطنة استراتيجية في تحقيق انفراجة عالمية من خلال وساطتها بين روسيا وأوكرانيا والتي أفضّت أخيرا إلى التوقيع على الاتفاقية التي تُعيد فتح موانئ أوكرانيا وتشحن الحبوب عبر البحر الأسود..
اتفاقية كانتالأسرة الدولية تنتظرها بفارغ الصبر لمواجهة خطر المجاعة التي هددت باجتياح العالم منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا.
جمع تركيا لممثلين عن “موسكو” و”كييف” على طاولة واحدة بمدينة “اسطنبول” لتوقيع هذه الاتفاقية بحضور الرئيس رجب طيب إردوغان والأمين العام للأمم المتحدة، لم يكن لوحده ما أثار دهشة واستحسان العالم بل الطرق والأساليب الناجحة التي انتهجتها “أنقرة” بكل نجاح على مدار الأشهر الماضية في سبيل تهدئة مخاوف بلدين متحاربين عدوين ليس لديهما أدنى ثقة ببعضهما الآخر، وطريقتها في إقناعهما بأن يضعا كل الثقة فيها لتنفيذ الاتفاقية، وهو ما حصل بالفعل.
لم يكن التوصل إلى هذه الاتفاقية أمرا سهلا حيث بذلت تركيا جهودا مكثفة سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا لتحقيق هذا الهدف حيث كانت روسيا ترفض الاستجابة للدعوات الأممية قبل أن تقع المعجزة وتوافق على الجلوس والاتفاق على التفاصيل، ساعد في ذلك أن تركيا تمتلك علاقات ممتازة مع كل من أوكرانيا وروسيا في كل الميادين السياسية والعسكرية والتجارية والسياحية والطاقة والغذاء وحتى قطاع الدفاع؛ عدا عن أن الموقع الجغرافي لتركيا على البحر الأسود ومضايق تركيا البحرية الدردنيل والبسفور، تجعلها ممرا إجباريا للسفن الحربية التي تود الانتقال من وإلى البحر الأسود.
وفي النهاية، نجحت دبلوماسية المسارات الاستقلالية للرئيس إردوغان التي تعاطى فيها بكل حذر وقراءة متأنية في الحفاظ على التوازن السلس في العلاقات بين أطراف النزاع، وتمكن بإقناع روسيا وأوكرانيا بالقبول بتركيا كوسيط حقيقي قادر على لعب دور إيجابي في إرساء التسوية بين البلدين، تصب في مصلحة العالم كله دون أن يكون لها أي مآرب خفية أخرى سوى إنقاذ نفسها وحتى الدولتين والعالم كله من مصير بشع يتمثل بالمجاعة التي تؤثر على سكان الأرض كلها حيث تعاني الكثير من دول العالم حاليامن أزمة حبوب نتيجة عدم تمكن سفن الشحن من مغادرة الموانئ الأوكرانية بسبب الحرب المندلعة منذ 24 فبراير/شباط الماضي. وشهدت أسعار الغذاء في العالم ارتفاعا كبيرا منذ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أحد أكبر مصدري الحبوب، وطالت هذه الأزمة خصوصا الدول الأشد فقرا حيث تعد أوكرانيا من بين أكبر مصدري القمح وغيره من الحبوب في العالم لكن السفن الحربية الروسية والألغام التي زرعتها “كييف” في أنحاء البحر الأسود، تسببتبتوقف صادراته.
لكن بالأمس، عاشت مدينة “اسطنبول” فخر مشاركةوفود روسية وأوكرانية وأممية في افتتاح مركز التنسيق المشترك لتصدير حوالي 25 مليون طن من الحبوب المتراكمة في الصوامع الأوكرانية عبر البحر الأسود.ووفقا للاتفاقية التي ستكون سارية المفعول لمدة 120 يوما قابلة للتمديد، ستضمن تركيا مع الأمم المتحدةسلامة طرق التصدير بينما ستقوم الأطراف المتحاربة بفحص الشحنات بشكل مشترك قبل دخولها الموانئ الأوكرانية.وتنص آلية الاتفاق على تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود من ثلاثة موانئ أوديسا، تشورنومورسك، ويوجني، وبدون أن تكون هناك إزالة كاملة للألغام نظرا لعدم ثقة الأوكرانيين بالروس؛ كما سترافق السفن الحربية الأوكرانية السفن المحملة بالحبوب إلى المياه الدولية، ومن ثم سترافقها الأساطيل الأجنبية لإحضارها إلى اسطنبول.
والمركز الذي تم إنشاءه في “اسطنبول” وسيكون تحت رعاية الأمم المتحدة بمشاركة الأطراف الأربعة، هدفه الإشراف على سير العمليات وحل أي خلافات قد تنشب بين البلدين. على أن الاتفاقية تنص أيضا علىحظر السفن والطائرات الحربية والطائرات دون طيارمن الاقتراب من السفن إلى مسافة محددة حيث ستقوم فرق التفتيش بتفتيش السفن المتجهة للموانئ بحثا عن أسلحة تحت سيطرة مركز التنسيق المشترك. أما في الموانئ، فسيراقب ممثلو الأمم المتحدة وتركيا وأوكرانيا شحن الحبوب.
ويرى الخبراء أن هذه الاتفاقية التي تعد إنجازا كبيرا لتركيا سيكون لها تأثير سريع في تخفيف أزمة الغذاء العالمية وخفض أسعار العديد من المواد الغذائية أبرزها الزيوت، والتي شهدت ارتفاعا كبيرا في الأشهر الأخيرة، ما سيجنب العالم أزمة غذاء كبرى ومشكلة إنسانية، إذ ساهمت الحرب بنصيب وافر في ارتفاع أسعار الغذاء، وفي شح المواد الغذائية في البلدان الأكثر فقرا.
ومن هذه الزاوية العريضة، يمكن القول أن تركيا لم تنقذ العالم فقط بهذه الاتفاقية بل ونفسها أيضا من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها، وفي حال التزمت روسيا بمصداقية الاتفاقية والتي كادت أن تنسفها قبل أيام بضربها للبنية التحتية لميناء “أوديسا”، فإن التنفيذ الناجح له قد يؤدي إلى إنشاء بورصة دولية للحبوب في اسطنبول لتحديد أسعار الحبوب عالميا، وهو المكسب الأكبر الذي تعول عليه تركيا من هذا الاتفاق.