بقلم/طه عودة أوغلو /باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية [1]خاص- سراي بوست
شكلت الأحداث الإقليمية والدولية التي طرأت في الأشهر الأخيرة لا سيما الحرب الروسية-الأوكرانية، ومساعي السويد وفنلندا للانضمام إلى عضوية حلف “الناتو”، خطاً بارزا للكشف عن تغير ملحوظ في نهج السياسة الخارجية التركية الرامية لإعادة صياغة نفوذها، وفتح مجالات حيوية جديدة لتعظيم مصالحها، وتحقيق درجات متزايدة من الاستقلالية في سياستها الخارجية.
وتبدو الأمور اليوم أكثر وضوحا مع زيارة الوفد السويدي والفنلندي إلى العاصمة “أنقرة” من أن تركيا باتت تحمل بيدها تأشيرة عبور هاتين الدولتين إلى حلف “الناتو”، وفي نفس الوقت هي زيارة تعبر عن مدى نفوذ تركيا كصاحبة كلمة وقرار ودور بارز في هذه المنظومة الدولية الأهم في العالم.
المتتبع للشأن التركي يرى أن “أنقرة” تخوض في الفترة الحالية عملية تفاوض حاسمة مع القوى الفاعلة بشأن “الضمانات”، تطال أيضا عواصم العديد من دول “الناتو” إذ أن توقعات تركيا تتجاوز مسألة فنلندا والسويد إلى حل المشاكل في العلاقات مع الولايات المتحدة، لا سيما رفع عقوبات “كاتسا” بسبب “أس400″، ووقف الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية بشمال شرق سوريا.
من هذا الباب، تحاول تركيا إعادة التموضع وترتيب قوتها في منطقة الشرق الأوسط الذي يعد فضاء جيوسياسيا مفتوحا بالكامل أمامها، وقد وجدت في الحاجة الفنلندية-السويدية لها، أرضية صلبة تضع عليها الشروط التي تناسبها وتناسب مصالحها وأهدافها المستقبلية خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الإجماع الأوروبي والأمريكي على الترحيب بالسويد وفنلندا عضوين في “الناتو”، والاهتمام الكبير الذي توليه الولايات المتحدة خصوصا بمجريات العضوية للدولتين على الرغم من انشغالها الكبير بالحرب في أوكرانيا.
بدا ذلك واضحا في التصريحات الأمريكية على أعلى المستويات حين أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء استقباله لرئيسة الوزراء السويدية ماجدالينا أندرسون والرئيس الفنلندي سولي نينيستو في البيت الأبيض لمناقشة طلبات الانضمام لحلف “الناتو”، وتعهده لهما بـ”الدعم الأمريكي الكامل”. وعندما سُئل كيف سيقنع تركيا بدعم طلب فنلندا والسويد للانضمام إلى الحلف، قال بايدن:”أعتقد أننا سنكون على ما يرام”. بالمثل أيضا التصريحات الأخيرة للمتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس حين قال:”يبحث شركاؤنا السويديون والفنلنديون هذا الأمر مع حلفائنا الأتراك حاليا.. ونحن على ثقة بأننا سنحافظ على علاقاتنا مع شركائنا السويديين والفنلنديين وحلفائنا الأتراك ونحافظ على الإجماع القوي داخل الناتو بشأن الانضمام السريع للسويد وفنلندا إلى الحلف”.
صحيح أن هناك ثمة عددا من الاختلافات المبدئية والفاعليات التي تمنع تركيا من القبول بعضوية هاتين الدولتين في الحلف لكنها ليست بتلك غير القابلة للحل. فهذا الأزمة سلطت دون أدنى شك الضوء على الشكاوى التركية القديمة ضد الدول الغربية وحلفائها في “الناتو” لانتزاع التنازلات التي طالما سعت لها، حيث كانت “أنقرة” تشكو دائما من قلة الدعم الذي تلقته في حربها ضد المسلحين الأكراد الذي يشكلون أكبر تهديد لأمنها القومي، وتأخذ خصوصا على السويد وفنلندا عدم الموافقة على طلبات تسليم أشخاص تتّهمهم بأنهم أعضاء في منظمات إرهابية، وتتهم السويد بإيواء خصومها وتقديم الدعم للمسلحين الأكراد في شمال سوريا، هذا ما أوضحه الرئيس رجب طيب إردوغان حين برر اعتراضه على عضوية الدولتين، قائلا:”لن نقول نعم لمن يفرضون عقوبات على تركيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لأنه عندئذ سيتوقف الناتو عن كونه منظمة أمنية ويصبح مكانا يترّكز فيه ممثلو المنظمات الإرهابية”. كما تطالب أيضا كلا من السويد وفنلندا بإسقاط حظر الأسلحة المفروض على تركيا في عام 2019 بعد هجومها العسكري في شمال شرق سوريا.
هذه الشكاوى التي ظلت مهملة لحد الآن، باتت أقرب إلى الحل اليوم ربما بفضل الحرب الروسية-الأوكرانية، بحسب الكثير من المراقبين، وأيضا من خلال ما نستنبطه من التصريحات السويدية-الفنلندية المتفائلة بإقناع تركيا بإمكانية إيجاد أرضية مشتركة بشأن اعتراضاتها حين أكدت وزيرة الخارجية السويدية آن ليندي إن بلادها مثلها مثل باقي دول الإتحاد الأوروبي تعتبر حزب “العمال الكردستاني” منظمة إرهابية، فيما أعلنت حكومتها أنها مستعدة لإزالة أي عقبات في المحادثات مع تركيا، وبالمثل فنلندا التي أعلنت أنها سوف نستخدم الدبلوماسية لتوضح وتذلل أي شكوك لدى تركيا. إذا، هنا يمكن القول أن الحرب الروسية- الأوكرانية قدمت خدمة كبيرة لتركيا في سياقات إقليمية ودولية عبر تقاطعات فرضت نفسها على أرض الواقع، وفتحت الباب على مصراعيه أمامها من أجل فرض شروطها والمساومة بيد من حديد لخدمة مصالحها مع دول كانت تؤرق راحتها وأمنها مثل الولايات المتحدة التي أدركت أنها غير قادرة على الاستغناء عن دولة محورية قوية مثل تركيا في الشرق الأوسط تفاجئها دائما بإخراج ورقة من صندوقها السحري تشوش عليها مخططاتها، كذلك السويد وفنلندا اللتان باتتا قريبتان من معالجة شكوى تركيا حول المنظمات الانفصالية تحت وطأة الخوف على أمنهما من شظايا الحرب الروسية، أي أن كلا الدولتين يشعران الآن بل ويعايشان ما كانت تخشى منه تركيا وتعيشه طيلة السنين الماضية.
لا شك أن الأزمة الروسية-الأوكرانية ساهمت بقوة في إحداث دمار إضافي للأحوال الاقتصادية المتدهورة أساسا في العالم، وصحيح أن كل المنطقة وشعوبها تتوسل انتهاءها في أقرب وقت ممكن لكن إذا نظرنا للنصف المملوء من الكأس، بتصوري أن الضغوط التركية لانتزاع ما يمكن انتزاعه من مصالح من وراء هذه الأزمة سوف تزداد بموازاة حدة الحراك العسكري الروسي ضد أوكرانيا.. بمعنى، كلما شدد “قيصر روسيا” قبضته على أوكرانيا كلما خلق ذلك فرصا أكبر لتركيا لتثبيت مكانتها ونفوذها كدولة قادرة على فك الاحتقان الذي تشهده ساحة الشرق الأوسط من خلال علاقاتها القوية عموما بدول المنطقة وخصوصا بروسيا وأوكرانيا وإيران وأذربيجان.. وهذه القوة التركية البارزة تمثل علامة قوية ومشجعة لإدخالها من كل الأبواب التي تريد الجهات الفاعلة حل الأزمات فيها.
المصادر
↑1 | خاص- سراي بوست |
---|