بقلم/طه عودة أوغلو /باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية[1]خاص- سراي بوست
منذ تاريخ تأسيسها قبل قرن من الزمن، عاصرت المخابرات التركية العديد من الأنظمة الحاكمة، ومرّت في العديد من التجارب المختلفة لكن الأكيد أن قفزتها النوعية بل التاريخية تحققت في عهد حزب “العدالة والتنمية” والرئيس رجب طيب أردوغان الذي دشّن عهد استخباراتي جديد في البلاد عندما قالها باختصار “جهاز الاستخبارات الوطني اليوم ليس كما كان عليه قبل عشر سنوات”، ليعيد هيكلة المخابرات بشكل يتلاءم مع طموحات تركية في التمدد النشط إقليمياً ودولياً.
مع هذا العهد الجديد، تغير دور ومكانة المخابرات التركية بالكامل لتتحرر من كل القيود الروتينية، وتصبح ثاني عصب أساس في الدولة بعد رئاسة الجمهورية، وتتحول من جهاز أمني يعاني من بعض الثغرات إلى واحد من أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم التي يشار إليها بالبنان.
ويكاد غالبية الخبراء يجزمون أن هذا النجاح الكبير للمخابرات التركية لم يكن ليتحقق لولا العين الثاقبة للرئيس أردوغان في اختيار هاكان فيدان رئيساً للجهاز وهو المعروف بذكائه وحنكته وخبرته الأكاديمية العسكرية والاستخباراتية العالية.
لقد وقف أردوغان خلال فترة رئاسته للوزراء ولاحقاً كرئيس للجمهورية بكل قوة خلف فيدان، وقدم له كل الدعم المطلوب لا سيما في الشق القانوني حين مرر من البرلمان في عام 2014 قانوناً يخول وكالة الاستخبارات التركية بتنفيذ العمليات المتعلقة بالأمن القومي ومكافحة الإرهاب في الخارج، وحرية تقديم الطلبات والاستفسار من كل أجهزة الدولة عن دخول الأجانب وخروجهم، إلى جانب سلطة منح التأشيرة والإقامة وتصاريح العمل والترحيل بعد أن كان دوره يقتصر في السابق على تحليل المعلومات الاستخباراتية التي يحصل عليها ونقلها للمؤسسات الأمنية والحكومية ذات الصلة دون أن يحق له اتخاذ أي خطوات عملية أو قرار.
قد يرى البعض أن منح جهاز ما في الدولة كل هذه الحرية يمكن مع مرور الزمن أو حتى مع حكومات ضعيفة أن يتحول إلى نقمة كما حدث مع المؤسسة العسكرية السابقة التي استأسدت على البلاد والعباد، وتحكمت في كل نواحي البلاد، لكن أردوغان الرجل القوي والمحنك لم يفته هذا الأمر بحيث قام بعد تجميع كل مسارات الأمن والجيش في بنية مخابراتية واحدة، باستصدار قانون في عام 2017 يربط جهاز المخابرات برئيس الجمهورية ويعطيه صلاحية ترؤس مجلس تنسيق المخابرات الوطني الذي كان يترأسه سابقا رئيس جهاز المخابرات.
كما يمنح هذا القانون، رئيس الجمهورية حق المصادقة على قرار التحقيق مع رئيس جهاز المخابرات أو رفضه. وبهذه الطريقة، تمكن أردوغان من وضع سقف واحد ووحيد لدور الجهاز وصلاحيته، أي أن يكون خاضعاً لأوامر رئيس الجمهورية.
لهذا السبب، باتت المخابرات التركية اليوم هي الحصن المنيع للدولة، ومن أكثر أجهزة الدولة التي تعتمد عليها الحكومة لقطع أيدي كل من تسول له نفسه اختراق البلاد في ظل التوترات الداخلية والخارجية، والصراعات الإقليمية لا سيما في سوريا والعراق وشرق البحر المتوسط، والتحالفات والحراك الدولي المناهض لاستقلالية تركيا وثوابتها القومية.
من المعروف أن جهاز المخابرات التركي القديم، كان موالياً للمعسكر العلماني في الدولة، بالتحديد للنظام العسكري، فكانت الحكومات السابقة مغيبة تماماً عن أي تهديد أو خطط للانقلاب العسكري بل كانت المخابرات أحياناً تكتب التقارير وترسلها إلى مجلس الأمن القومي بحق الحكومات الإسلامية خصوصاً، على غرار ما حدث في مرحلة الـ28 من فبراير/شباط ناهيك عن حريتها غير المشروطة في التعامل مع المخابرات الأجنبية دون أن تضطر للعودة إلى الحكومة أو الحصول على إذن منها.
مخابرات اليوم ليست كتلك في الأمس، وكذلك تركيا مع الرئيس أردوغان وذراعه الأيمن هاكان فيدان الذي استطاع بقوة إرادته وخبرته الطويلة، نخلّ الجهاز وهيكلة قوته الإدارية والعملية من رأسه حتى أخمص قدميه، وتمكن بموافقة الرئيس أردوغان أن يخضع كل أجهزة الدولة الداخلية والخارجية التابعة للأمن والجيش تحت سقف وعنوان واحد “المخابرات العامة”، لتكون في وئام وانسجام مع الحكومة، واستقلال كلي عن القوى الخارجية، وهو بطبيعة الحال ما أثار استياء الكثير من الدول الكبرى التي لم تعتد على صورة تركيا المستقلة بإرادتها وقراراتها عن اللاعبين العالميين لا سيما بعد أن نجح الجهاز بتصدر المشهد التركي والعالمي بالعمليات الناجحة والحساسة التي قام بها في مكافحة المنظمات الإرهابية داخل تركيا وخارجها مثل حزب العمال الكردستاني، الوحدات الكردية، غولن، داعش، وإحضاره شخصيات إجرامية مطلوبة في الخارج، وتحرير رهائن أجانب في دول مثل سوريا وكينيا وإعادتهم إلى دولهم بالإضافة إلى التصدي لعمليات استخباراتية دولية داخل تركيا وقطع أوصالها بعد أن كانت تنبض وتنشط داخل تركيا في السابق مثل “الموساد” الإسرائيلي ووكالات الاستخبارات الأمريكية والروسية والإيرانية والألمانية.
وفي هذا الصدد، يقول الرئيس أردوغان:” العمليات الاستخباراتية الفعالة ضد المنظمات الإرهابية في العالم وخصوصاً داعش الذي ينشط في مناطق جغرافية واسعة، دفعت دولا كثيرة للاستعانة بجهازنا الاستخباراتي لإنقاذ مواطنيها المخطوفين”.
قبل أيام، نشرت المخابرات الوطنية التركية تقريراً عن أداء الجهاز لعام 2021، والتهديدات التي يتعامل معها، جاء فيه أنه “تم تخصيص مليارين و628 مليون ليرة للمخابرات الوطنية في عام 2021 لكن تم تجاوُز هذا الرقم، ففي العام الماضي بلغ إنفاق المخابرات التركية 3 مليارات و115 مليون ليرة، باستثناء الاعتمادات السرية”. وحول هذا الموضوع، قال رئيس جهاز الاستخبارات فيدان في إفادة مكتوبة:”من الضروري امتلاك القوة الذكية لاستخدام عناصر القوة الصلبة والناعمة بطريقة متوازنة في مواجهة الأنظمة الأمنية متعددة الطبقات في العالم والمخاطر المُصاحِبة.
في هذه المرحلة، سوف يستمر جهاز المخابرات الوطنية، المؤسسة المسئولة عن استخبارات الدولة في البلاد بلعب دور حاسم في إنشاء “قوة ذكية” للدولة، وذلك بفضل جمع المعلومات الاستخبارية والقدرة التشغيلية ودبلوماسية الاستخبارات”، وأضاف:” الجهاز يُولِي أهمية لمنهجية زيادة مستوى التـأهب للدولة التركية من خلال تطوير رؤية إستراتيجية ضد التهديدات، مع حقيقة أننا نتقدم خُطوة على المنافسين عندما يكون العقل والفهم حاضريْنِ في تجاوُز التهديدات الحالية”. وفي تقديره لوجود أنشطة “تجسُّس” في تركيا، قال فيدان:”لقد تم فك طلاسم أنشطة التجسس التي تستهدف بلادنا في مجال مكافحة الاستخبارات، وتم الكشف عن أعمال العديد من الدول تجاه دول أخرى، وتدمير شبكات العملاء”، في إشارة إلى تفكيك تركيا، خلال العام الماضي، شبكات إسرائيلية وإيرانية وروسية في تركيا.
خلاصة الحديث أن الحكومات التركية السابقة لم تحرز تقدماً وإنجازات في مجال مكافحة العدو الداخلي والخارجي كتلك التي حققتها حكومة أردوغان مع جهاز الاستخبارات بقيادة فيدان، خصوصاً في السنوات العشر الماضية، بعد أن أصبح جهاز المخابرات الجديد لا يقرأ ويحلل السياسة الخارجية فقط بل ويعمل أيضاً على أن يكون عقل الدولة الحريص على حماية أهدافها الاستراتيجية واقتلاع كل السموم التي كانت تنتشر في البلاد في العقود السابقة.
المصادر
↑1 | خاص- سراي بوست |
---|