بقلم / طه عودة أوغلو /باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية [1]خاص سراي بوست
تتابع القيادة التركية بحالة من عدم الارتياح التطورات الأخيرة في كازاخستان التي تحولت إلى مسرح للمظاهرات والعنف احتجاجاً على الوضع الاقتصادي السيئ في البلاد. وما زالت “أنقرة” لحد اللحظة تحافظ على حيادتيها من الأحداث مكتفية بإصدار بيانات رسمية تؤكد استعدادها لتقديم كل أنواع الدعم من أجل السلام والاستقرار في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 18 مليون نسمة تشكل الأصول التركية فيه نحو 60 بالمئة مقابل أربعة ملايين مواطن من القومية الروسية.
وعلى الرغم من إعلان الرئيس رجب طيب أردوغان استعداد بلاده لمشاركة كازاخستان بكل أشكال معرفتها وخبرتها التقنية إذا لزم الأمر إلا أن اللافت أن هذا الدعم التركي لم يمتد إلى تحرك ميداني فعلي لدعم الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف بالرغم من أن عضويتها في منظمة الدول الناطقة بالتركية تتيح لها التدخل لدعمها سياسياً وعسكرياً على غرار ما حصل إبان دعم تركيا عسكريا لأذربيجان في تحرير “كاراباخ”.
لا شك أن احتجاجات كازاخستان فتحت الباب واسعاً أمام طرح العديد من التساؤلات حول طبيعة وقوة العلاقات بين تركيا كازاخستان خاصة أن الأخيرة هي إحدى الدول الكبيرة الناطقة باللغة التركية لكن واضح أن استنجاد كازاخستان بجارتها روسيا والاستجابة السريعة لموسكو، وضع تركيا في موقف متأني حتى لا تسمح لهذا التدخل الروسي بقطع الطريق أمامها على منظومة العالم التركي التي يعمل الرئيس أردوغان على تحويلها إلى أمر واقع في المنطقة والاستفادة مما توفره من فرص استثمارية واقتصادية كبرى تساعد على إخراج الاقتصاد التركي من أزماته المعقدة.
من المعروف أن تركيا ترى في كازاخستان والدول التركية الأخرى عمقاً استراتيجياً لها وقد استطاعت بعد دعم أذربيجان وتحرير “كاراباخ” من فتح ممراً مباشراً مع آسيا الوسطى وهو أمر أزعج روسيا التي ترى في تلك المنطقة ساحة خلفية لها. وخلال السنوات الماضية، حاولت تركيا سحب البساط من تحت روسيا رويداً فرويداً من خلال الاتفاقيات التجارية والاقتصادية وبيع الأسلحة ومنتجات الصناعات الدفاعية المختلفة إلى تلك الدول. وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، جمعت الدول التركية تحت مظلة منظمة الدول التركية، وجعلت مقرها في “اسطنبول” في خطوة أخرى أزعجت روسيا كثيرا وهي التي ترى أن جميع هذه الدول يجب أن تكون تحت رعايتها وعليها أن لا تخرج من مظلة معاهدة الأمن الجماعي التي تجمع أغلب الدول التي كانت في الاتحاد السوفيتي سابقا.
وفقا للخبراء، هناك أسباب أخرى، تجعل تركيا حريصة على عدم الدخول في مشاكل جديدة والوقوع في متاهات بينما تواجه حالياً أكبر أزمة اقتصادية في تاريخها إذ وبغض النظر عن الجهات التي تقف وراء اندلاع الاحتجاجات في كازاخستان لكن إذا أخذنا بتوقيت الأزمة نرى أنها جاءت وسط حالة التجاذب والتوتر القائم بين روسيا والولايات المتحدة التي أعلنت على لسان رئيسها جو بايدن أنها سترد بـ”حزم” إذا ما غزت روسيا أوكرانيا. وبعدها، خرج “الكرملين” ليتهم “واشنطن” بتورطها في أعمال الشغب التي تهز كازاخستان وهو الأمر الذي نفته المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي التي ردت باتهام روسيا بممارسة “استراتيجية التضليل” وتسويق “ادعاءات مجنونة”.
لكن في واقع الأمر، يرى الكثيرون أنه سواء كان هناك يد للولايات المتحدة أم لا إلا أن ما يحدث في كازاخستان حالياً يمثل فرصة ذهبية لواشنطن من ناحية لي ذراع الدب الروسي لانتزاع بعض التنازلات من روسيا فيما يخص حليفها الأوكراني وأيضا إخراج هذا البلد الذي يحتل المكان الـ12 في قائمة الدول المصدرة للنفط في العالم من تحت عباءة الروس إلى جانب مكاسب أخرى مثل ضرب هيمنة الخصم الروسي على القرار في أسيا الوسطى وإخراجها من الدوران في الفلك الروسي على غرار النسخة الأوكرانية.
بالمثل أيضا، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن كازاخستان تعد من أغنى دول أسيا الوسطى بالثروات الطبيعية من النفط والغاز الطبيعي واليورانيوم والمعادن النفيسة، فإن سقوط النظام السياسي فيها يعد مسألة حياة أو موت بالنسبة لروسيا لأن ذلك قد يعني بالدرجة الأولى ضرب احتكار روسيا لتصدير الغاز الطبيعي لآسيا الوسطى، وقطع خطوط نقل أنابيب “غازبروم” من كازاخستان وتركمانستان واللتين تمثلان حصة معتبرة من صادرات “غازبروم” إلى الاتحاد الأوروبي، بالتالي إضعاف القدرة الروسية على التحكم في سوق الغاز وأسعاره. وعليه، فإن كازاخستان تمثل أم المعارك بالنسبة للكرملين الذي يضع كل قوته لإنقاذ حكم “آل نور سلطان”. وفي حال نجحت القيادة الكازاختسانية باحتواء الاضطراب والخروج من المعركة بسلام، فإن هذا سيؤسس لعلاقات أكثر قوة مع “الكرملين” على حساب كثير من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي.
ولعل هذا السبب وراء تعامل تركيا الحذر وعدم تدخلها العميق في هذه الاضطرابات لإدراكها الموازين المعقدة والمتاهات التي يعيشها هذا البلد الذي تربطها به علاقات تاريخية وثيقة ومصالح كبيرة لتشابه الثقافة والعرق واللغة بينهما وذلك في ظل معركة كسر العظام التي تدور بين الروس والأمريكيين على وجه التحديد. بالتالي، تحاول “أنقرة” حالياً قراءة الموقف بكل أبعاده والحفاظ على وزنها ومصالحها الأمنية والاقتصادية وسط أسيا وفي نفس الوقت تسير وفق استراتيجية دقيقة تقوم على عدم الصدام مع روسيا التي مررت عبر إرسال قوات إلى كازاخستان لدعم الرئيس توكاييف رسالة واضحة للجميع أنها لن تتخلى عن الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي لأجل أي جهة بما في ذلك تركيا.
في المجمل، واضح أن الاستراتيجية التركية تقوم حالياً على التمسك بعلاقتها مع القيادة الكازاخستانية وعدم الدخول في زاوية خطرة جديدة مع روسيا بعد التجارب الصعبة في سوريا وليبيا وأذربيجان التي أوشكت أن تضرب العلاقات بين البلدين. وفي نفس الوقت، ستكون تركيا كعين الصقر في مراقبة التغييرات التي ستحدث على خلفية الصراعات الجارية بين روسيا والولايات المتحدة ومن وراءهم الصين والاتحاد الأوروبي في هذا البلد للاستفادة من المتغيرات على اعتبار أن أي تطور يصب في اتجاه الديمقراطية في كازاخستان، ستظل “أنقرة” من أكبر الرابحين منه.
المصادر
↑1 | خاص سراي بوست |
---|