مقالات كتّاب

هل ستخرج تركيا من مأزق التوافق ضد روسيا بإسقاط التجربة الإيرانية عليها ؟

بقلم/ طه عودة أوغلو/باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية [1]خاص-سراي بوست

على الرغم من مساعي تركيا لإرساء استراتيجية التوازن الدقيق في تعاطيها مع ملف الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة منذ أكثر من أسبوع إلا أن حالة الاصطفاف الدولي بين روسيا والدول الأوروبية والغربية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، تزج بها شاءت أم أبت في خانة “الترجيح الملزم”، ما يضعها أمام رهان صعب لاختيار الجهة التي ستكون قادرة على تغيير شكل النظام الدولي لاحقاً.

صحيح أن تركيا من الناحية العملية أعلنت مراراً وتكراراً، رفضها المطلق للحرب والتزامها الحيادية لكن كل التصريحات الصادرة من أنقرة” حتى اللحظة يمكن أن تُترجم بأنها “انحيازية” بامتياز لاسيما مع تواصل إمداد تركيا لأوكرانيا بمسيرات “بيرقدار” التي تزعج روسيا، بالتوازي مع إعلان وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف، الأربعاء الماضي، أن بلاده تستعد لتلقي شحنة جديدة من الطائرات التركية المسيرة التي أظهرت فاعلية كبيرة في القتال ضد الروس والدفاع عن الأراضي الأوكرانية لاسيما بعد نشر ضباط أوكرانيون لفيديوهات يتحدثون فيها عن دور هذا السلاح في تغيير مسار الحرب وحسم المعارك وإيقاع خسائر روسية بشرية ومادية فادحة. زاد عليها دخول مهندس الطيران التركي سلجوق بيرقدار، وهو المدير التقني لشركة “بيكار” المصنعة لمسيرات “بيرقدار” والطائرات المسلحة بدون طيار، وصهر الرئيس رجب طيب أردوغان على الخط، وإعلان دعمه العلني لأوكرانيا ضد ما وصفه بـ”الغزو الروسي غير المشروع لأوكرانيا” وإدانته الشديدة لتجاهل سيادة دولة مستقلة.
يمكن القول أن السبب وراء تريث تركيا في إظهار موقفها العملي على الأرض يعود إلى محاولتها استكشاف خبايا هذا الغزو الروسي المفاجئ لأوكرانيا الذي ترى أنه “غير مبرر” في ظل المطالب التعجيزية التي تسوقها روسيا شرطا لإيقاف الحرب.

فالأمر بالنسبة لتركيا، وكذلك للعالم كله، هو أبعد من مجرد غزو عادي، إذاً كيف لروسيا أن تخاطر بشعبها واقتصادها والحظر الدولي عليها وعلى أموال أثريائها في الدول الأوروبية والغربية، إذا لم يكن هناك هدف أكبر بكثير من مجرد حرب تزيد من الفوضى والاختلال في المنطقة برمتها وتتجاوزها إلى محاولة إحداث تغيير جذري في القواعد الحاكمة للنظام العالمي خصوصا مع دخول الصين على الخط وإعلانها دعمها المطلق لموسكو.

هذه النقطة بالذات هي ما تعكف تركيا على قراءتها حالياً لوضع استراتيجية مناسبة غاية في الدقة كي لا تراهن على الجهة الخاطئة، لهذا هي تؤكد على لسان كل مسئوليها أنها لن تدخل هذه الحرب أو بالأحرى لن تنزلق لمواجهة مع روسيا خصوصاً في وقت تكتفي فيه دول “الناتو” بما يمكن أن يوصف بـ”العنترة الشفهية” واتخاذها لإجراءات تبدو أوهن من بيت العنكبوت مثل إغلاق المجال الجوي أو التلويح بعقوبات اقتصادية.

وعليه، تقول “أتقرة” أنها ستبقى على تواصل مع الروس والأوكرانيين لممارسة دور “دولة الإطفاء” في سبيل إخماد هذه الحرب في أسرع وقت قبل أن تطال تداعياتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية دول عديدة في المنطقة، قد تكون هي واحدة منهم على اعتبار ما يربطها من علاقات قوية بالبلدين.
ولعل هذا كان من أهم الأسباب التي دفعت بتركيا إلى منع عبور السفن الحربية للدول المشاطئة وغير المشاطئة من مضيقي البوسفور والدردنيل بموجب “اتفاقية مونترو” التي تمنحها حق التحكم بحركة العبور في هذين المضيقين. وقد فسره البعض على أنه موجه ضد روسيا لكن في واقع الأمر هي خطوة مهمة من تركيا موجهة ضد كل الدول الأخرى من ضمنهم الولايات المتحدة التي يمكن أن تدخل على الخط أيضاً بسفن مساعدات حربية، تحمي من وطيس الحرب. هذا عدا عن حقيقة أن روسيا لا تحتاج كثيرا لهذا المضيق في ظل وجود الأسطول الروسي المجهز بالكامل في شبه جزيرة القرم. وهذه الخطوة كانت رمزية.. والدليل أن روسيا لم تنزعج من هذا القرار التركي بل وثمنته على لسان سفيرها في “أنقرة” الذي قال إن بلاده تقدّر موقف تركيا في الالتزام باتفاقية “مونترو” الخاصة بالمضائق، معتبراً في تصريحات له خلال مقابلة مع قناة “خبر تورك” التركية، أن اتفاقية “مونترو” تهم الجانب الروسي أيضا عن كثب، وأضاف: “يجب أن أقول أيضاً إننا نقدر موقف تركيا تجاه حماية اتفاقية مونترو والالتزام بها، فهي وثيقة مهمة من وثائق القانون الدولي”، وتابع: “نحن على اتصال مستمر مع السلطات التركية فيما يتعلق باتفاقية مونترو واستخدام المضائق”. وأكد أنه يؤمن “بإمكانية الوصول معاً إلى وضع يمكن أن تتحقق فيه جميع مصالحنا وكل رغباتنا”. وهذا يعني أن إغلاق المضيق يخدم أيضا هدف عدم توسع الحرب ودخول الأيدي الخارجية ضد روسيا أيضاً، ويعطي حجة منطقية للغرب للتهرب من إسعاف أوكرانيا عسكرياً. وهكذا تكون تركيا من الناحية العملية، قد احتوت مجرى الحرب لضمان عدم اتساع رقعتها بسرعة حماية لنفسها ولمصالحها وللمنطقة عموماً، كما أنها تأخذ بذلك مساحة للتفكير بكيفية احتواء الأضرار التي ستطالها جراء هذه الحرب.

إذ وفقاً للخبراء، فإن أكثر المجالات المعرضة فيها تركيا للضرر الشديد تتركز على ثلاثة محاور اقتصادية صعبة، الغاز الطبيعي، القمح، والسياحة بحيث أن الارتفاع الحاد في أسعار النفط والغاز قد يؤدي إلى زيادة فاتورة الواردات التركية وتقليل عائدات السياحة ما يعمق من شرخ الأزمة الاقتصادية التي أثقلت كاهل المواطنين.

وفي حال طال أمد الحرب، فإن اعتماد تركيا على روسيا و أوكرانيا في استيراد المنتجات الزراعية وخاصة القمح والشعير، سيتسبب بضغوط تضخمية إضافية على الاقتصاد التركي الذي يواجه حالياً أكبر معدل للتضخم منذ 20 عاماً خصوصاً أن تركيا تعد أكبر مستورد للمنتجات الزراعية من روسيا بقيمة بلغت 4.3 مليار دولار عام 2021، في حين كانت صادراتها لروسيا 1.5 مليار دولار.

وفي مجال السياحة، تشير بيانات وزارة الثقافة والسياحة التركية أن الروس والأوكرانيين يشكلون نسبة 27 بالمئة من إجمالي السياح. وبلغة الأرقام، بلغ عدد السياح الأجانب الذين زاروا تركيا خلال عام 2021 أكثر من 30 مليون سائح، بعائد 24 مليار دولار فيما تصدر السياح الروس القائمة بعدد بلغ 4.694 مليون سائح مقابل السياح الأوكرانيين 2.1 مليون.

وهذا يعني، أنه في حال حمى وطيس الحرب أكثر، فإن تركيا ستخسر 27 بالمئة من السياح يضاف إلى ذلك أنه في حال تنفيذ أهم العقوبات المالية ضد روسيا وهي منعها من استخدام النظام المصرفي العالمي المعروف اختصارا باسم (SWIFT)، الذي يُعتبر شبكة أمنية مشددة تربط آلاف المؤسسات المالية حول العالم، فإن ذلك سيؤثر بطبيعة الحال على تركيا وتعاملاتها التجارية مع روسيا وتعيقها.

في المجمل، يمكن القول أن “أنقرة” على دراية كاملة أن هذه الحرب الروسية-الأوكرانية هي غير كل الحروب التي دارت في المنطقة في العقود الأخيرة، ما يجعل موقفها محملاً بالحسابات المعقدة على اعتبار أن أي قرار ستتخذه سيكون له تأثير طويل المدى بإيجابياته أو سلبياته على أمن واقتصاد تركيا أولا وكذلك سينسحب على المنطقة حيث من الممكن أن يؤدي استمرار الحرب وتوسع أطرافها إلى تحفيز دول أخرى لتكرار التجربة الروسية وملء الفراغات الرخوة فيها، لهذا هي تبتعد عن كل أنواع المجازفات، وقد تختار في حال وضعها في خانة “الاختيار النهائي” أن تتعامل مع العقوبات الأوروبية والغربية ضد روسيا كما تعاملت سابقاً بذكاء مع أزمة إيران؛ أي أن تجد مساحة مشتركة دون إلحاق الضرر بعلاقاتها السياسية والاقتصادية مع “موسكو” .

المصادر[+]

المصادر
1 خاص-سراي بوست
Exit mobile version