
من الشائع أن تظهر مشكلات غير متوقعة تتعلق بالأمان في الفترة التي ينتقل فيها أي دواء أو لقاح من مرحلة الاختبار على عشرات الآلاف من المتطوعين إلى مرحلة الاستخدام الفعلي واسع النطاق من قِبَلِ عشرات الملايين من العامة،
لذا لم يكن الأمر يمثل مفاجأةً كبيرة عندما عانت نسبة ضئيلة جدًّا من الأشخاص من مشكلة غريبة هي تجلُّط الدم بعد تلقِّي لقاح “جونسون أند جونسون” (J&J) المضاد لـ”كوفيد-19″، أو جرعة “أسترازينيكا”، وهو اللقاح المُستَخْدَم على نطاق واسع خارج الولايات المتحدة.
إن ظهور آثار جانبية نادرة وخطيرة لأي لقاح قد يضع السلطات المعنية بالصحة العامة أمام معضلة صعبة، وفي حالة اللقاحين المذكورين، يبدو أن شخصين من بين كل مليون شخص تلقوا لقاح “جونسون أند جونسون”، وشخصًا واحدًا من بين كل 100 ألف شخص تلقوا لقاح “أسترازينيكا”، يصابون بهذه التجلطات الدموية المُهَدِّدَةِ للحياة، وما يصاحبها من انخفاض غريب في عدد الصفائح الدموية التي تساعد على تجلط الدم، غير أن المخاطر الكامنة في كلتا الحالتين تتضاءل مقارنةً بالمخاطر المرتبطة بالإصابة بمرض “كوفيد-19” نفسه، الذي يشير أحد التقديرات إلى أنه يتسبب في وفاة ما يقرب من شخصين من بين كل ألف مصاب (رغم أن معدلات الوفيات قد تختلف اختلافًا كبيرًا وفق العمر، والموقع، وعوامل أخرى)، ومن ناحية، من الضروري أن تكون هناك شفافية مع الجمهور، وأن يتلقى مقدمو الرعاية الصحية إشعارًا بالمشكلة وتوجيهات بشأن أفضل السبل للتعرف عليها ومعالجتها، ولكن من ناحية أخرى، ثمة احتمال كبير أن يؤدي ذلك إلى إثارة شكوك لا داعيَ لها بشأن هذين اللقاحين، وغيرهما من اللقاحات أيضًا، الأمر الذي قد يؤدي إلى تأجيج مشاعر التردد في تلقي اللقاحات، وهي مشاعر بلغت مستويات مُقْلِقَة بالفعل.

مشكلات تجلط
كان اكتشاف مشكلات التجلط -التي ظهرت في أوائل مارس بالنسبة للقاح “أسترازينيكا”، وأوائل أبريل بالنسبة للقاح “جونسون أند جونسون”- مدعاةً لعقد مسؤولي الصحة في الولايات المتحدة وأوروبا اجتماعات طارئة، وتوقف توزيع اللقاحين في عدة بلدان حول العالم، لكن بحلول الثالث والعشرين من أبريل، خَلُصَت السلطات المعنية بالصحة العامة في كلتا المنطقتين إلى أن فوائد اللقاحين تفوق مخاطرهما بكثير، وأنه ينبغي استئناف توزيع اللقاحين، وإن كان ذلك مشروطًا بطرح ملصقات جديدة تحمل تحذيرًا بخصوص تلك التجلطات الدموية نادرة الحدوث.
وعمَّا إذا كان ثمة مسوِّغ للتوقف المؤقت عن توزيع اللقاحين أم لا، فهذا أمر اختلفت فيه الآراء، نظرًا للحاجة الملحة إلى درء هذه الجائحة العالمية المميتة، ولكن إذا نظرنا إلى الأمر من منظور رياضي بحت، فإن الخبراء يقولون إن الإجابة هي قطعًا لا، يقول أوفيت موضحًا: “من بين كل مليون شخص يتلقون اللقاح، قلة قليلة فقط هي التي ستعاني من تلك التجلطات الغريبة”، ويضيف قائلًا: “لكن من بين كل مليون شخص يصابون بـ”كوفيد-19″، سيموت الآلاف”.
ويُعد أحد أصعب الأسئلة التي تؤرق السلطات الصحية سؤالًا ذا طابع نفسي يقول: إلى أي مدى يمكن للجمهور التفكير على نحو عملي في أثر جانبي محتمل ولكنه يثير الفزع برغم أنه نادر الحدوث؟ يقول عالِم النفس، جيرد جيجرينزر، مدير مركز هاردينج لمحو الأمية المتعلقة بالمخاطر في جامعة بوتسدام في ألمانيا: “إن أغلب الناس أميون فيما يتعلق بتقييم المخاطر”، ويضيف قائلًا: “يُظْهِرُ عدد كبير من الدراسات أن الأشخاص العاديين يلتبس عليهم الأمر عند تقييم المخاطر النسبية، أو الاحتمالات، أو النسب”، وفي الواقع، تشير الأبحاث العلمية إلى أننا نميل إلى المبالغة في تقدير احتمالية وقوع حدث نادر، لا سيما إذا كان حدثًا جديدًا من نوعه، وقاتلًا، وعملت وسائل الإعلام على تضخيمه، حسبما يقول عَالِم النفس باروخ فيشوف، أستاذ الهندسة والسياسة العامة في جامعة كارنيجي ميلون الأمريكية، وأحد أكبر الخبراء في مجال آليات الإبلاغ عن المخاطر الصحية.
يعتقد كلٌّ من فيشوف وجيجرينزر أن مسؤولي الصحة يمكنهم المساعدة في تجنُّب مثل هذا الالتباس من خلال تزويد الجمهور بمعلومات واضحة للغاية ومتقنة الصياغة، وهو أمرٌ يقول فيشوف إن السلطات الصحية الأمريكية والأوروبية يمكنها أن تفعله على نحو أفضل مما هو عليه الآن، ويؤكد فيشوف أن “أغلب الناس لن يكون لديهم مشكلة في فهم المخاطر إذا أدى الخبراء عملهم على النحو الصحيح”، ويضيف قائلًا: “لنمنح الرياضيات فرصة!”.
تحدٍّ رياضي
ظهرت أوائل الأنباء حول مشكلة التجلط المرتبطة بلقاح “أسترازينيكا” في أواخر شهر فبراير، ولم يكن اللقاح قد حصل بعدُ على تصريح باستخدامه في الولايات المتحدة، وبحلول الثاني والعشرين من مارس، كانت وكالة الأدوية الأوروبية (EMA) على علم بظهور 86 حالة تجلط، منها 18 حالة قاتلة، في أوروبا والمملكة المتحدة، وهو عددٌ ضئيلٌ للغاية من بين 25 مليون شخص كانوا قد تلقوا اللقاح آنذاك، وكانت أغلب هذه الحالات لنساء دون سن الستين.
وقد بدأت السلطات الصحية الأمريكية هذا الشهر في تلقِّي تقارير عن حالات مماثلة مرتبطة بلقاح “جونسون أند جونسون”، وهو لقاح أحادي الجرعة تلقَّاه نحو ثمانية ملايين شخص في أنحاء البلاد، وقد رصدت التقارير ما لا يقل عن 15 حالة تجلط، جميعها لنساء دون سن الستين، وأدى التجلط إلى الوفاة في ثلاث حالات من بينها على الأقل.
وفي أوروبا، أثارت نتائج تجربة استخدام لقاح “أسترازينيكا” ردود أفعال متباينة؛ إذ توقفت أكثر من 20 دولة عن توزيع هذا اللقاح لمدة أسبوع أو أكثر، واستأنفت أغلب تلك الدول استخدام اللقاح، ورافق ذلك صدور مجموعة من التوصيات الجديدة التي تقضي باقتصار توزيع اللقاح على فئة البالغين الذين تتجاوز أعمارهم سن 55 أو 60 أو 65 عامًا، أو توجيه البالغين الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا لاختيار لقاحات أخرى، كما في حالة المملكة المتحدة، غير أن وكالة الأدوية الأوروبية لم تصادق على أي قيود عمرية، ولم تُصَرِّحْ بأنه يجب على النساء الأصغر سنًّا تجنُّب اختيار لقاح “أسترازينيكا”، وهي المواقف التي تتبناها كذلك السلطات الأمريكية فيما يتعلق بلقاح “جونسون أند جونسون”.
وفي الولايات المتحدة، استمر وقف لقاح “جونسون أند جونسون” لمدة عشرة أيام، وسوَّغ القادة في مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) القرار بأنهم كانوا في حاجة إلى بعض الوقت للتحقيق في حالات التجلطات الدموية، وأن تصرُّفهم “جاء من منطلق الحذر الزائد”.
لم تكن تلك العبارة مستساغةً لدى عدد من خبراء الإعلام الصحي، يقول جلين نوفاك، مدير مركز الصحة والتواصل بشأن المخاطر في جامعة جورجيا، والرئيس السابق لقطاع إعلام اللقاحات في مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها: “هذه العبارة تجعل الأمر يبدو وكأنه لا يوجد جانب سلبي [للتوقف المؤقت]، في حين أنه قد يكون ثمة جانب سلبي كبير في الواقع”، وكان من أكبر المخاوف ضياع فرصة استخدام لقاح ذي جرعة واحدة وسهل النقل مثل لقاح “جونسون أند جونسون” في المناطق الريفية، وإتاحته للمشردين، وغيرهم من الشرائح الاجتماعية التي يصعب الوصول إليها، يقول نوفاك: “كنا نستخدم لقاح “جونسون أند جونسون” مع الفئات المعرضة للخطر والفئات دائمة التنقل من السكان، وهي فئات قد يتعسر على أفرادها العودة لتلقي جرعة ثانية”.
مراكز السيطرة
كان كلٌّ من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها ووكالة الأدوية الأوروبية قد أصدر بالفعل بعض المعلومات حول الضرر النسبي للقاحين؛ ففي حدث إعلامي افتراضي عُقِدَ في الثالث والعشرين من أبريل لتوضيح قرار استئناف استخدام لقاح “جونسون أند جونسون”، أشارت مديرة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، روشيل بي. والِنسكي، إلى أن كل مليون جرعة من هذا اللقاح تتلقاها النساء ممن تتراوح أعمارهن بين 18 و49 ستحول دون دخول 650 حالة إلى المستشفى، ووقوع 12 حالة وفاة من جَرَّاء الإصابة بـ”كوفيد-19″، وذلك في مقابل احتمال التسبب في نحو سبع حالات تجلطات دموية، أما وكالة الأدوية الأوروبية فقد بذلت مجهودًا أكبر من ذلك؛ إذ نشرت مجموعة تفصيلية (وإن كانت مملة إلى حدٍّ ما) من الرسوم البيانية التي تقارن مثل هذه الإحصاءات للقاح “أسترازينيكا”، وذلك مع تصنيفها وفق الفئة العمرية ومدى تفشي فيروس كورونا؛ فعلى سبيل المثال، في الأماكن التي ترتفع فيها نسبة الإصابة بالعدوى، فإن إعطاء مليون جرعة من اللقاح للبالغين في الثلاثينيات من العمر سيحول دون دخول 81 حالة إلى المستشفى من جَرَّاء الإصابة بـ”كوفيد-19″، وذلك في مقابل 1.8 حالة تجلط، وبالنسبة للأشخاص في الثمانينيات من العمر، أشارت التقديرات إلى أهمية اللقاح في الحيلولة دون دخول 1239 حالة إلى المستشفى في مقابل 0.4 حالة تجلُّط.
والسؤال الآن هو: هل يستطيع أغلب الناس فهم هذا النوع من الرياضيات؟ بَيَّنَت أبحاث جيجرينزر أن تقديم المعلومات في صورة جدول مُبَسَّط -فيما يطلِق عليه هو وزملاؤه اسم “صناديق الحقائق”- يمكن أن يساعد الناس في المفاضلة بشكل أسهل بين مخاطر اللقاحات وفوائدها، وكذلك غيرها من التدخلات الصحية الأخرى، والدور نفسه يمكن أن تؤديه الرسوم البيانية المُصَمَّمَة جيدًا بحيث تعرض المخاطر النسبية بشكل بصري، ومنها تلك الرسوم البيانية التي وضعها مركز وينتون للتواصل بشأن المخاطر والأدلة في جامعة كامبريدج، واستخدمتها وكالة الأدوية الأوروبية كنماذج، ويعتقد جيجرينزر أن ثمة جهودًا أكبر بكثير يمكن بذلها على المدى الطويل لتوعية الجمهور -بدءًا من مرحلة الطفولة- حول كيفية التفكير في المخاطر والاحتمالات، ويشير جيجرينزر إلى أن ثمة درسًا آخر من شأنه أن يفيد كثيرًا في عملية مساعدة الناس على فهم المقصود بفكرة أن احتمالات حدوث عَرَضٍ جانبي هي واحد في المليون: نحن بحاجة إلى أن ندرك أنه لا يوجد شيء تقريبًا يخلو من المخاطر.

انخفاض الثقة باللقاح
ويظل التأثير النهائي للتوقف المؤقت عن توزيع اللقاح والرسائل المتباينة حول الآثار الجانبية له غير واضح إلى الآن، لكن ثمة ما يدعو إلى القلق، وفق قول هايدي جيه. لارسون، مديرة «مشروع الثقة باللقاحات» Vaccine Confidence Project، وهي منظمة بحثية تقيس الآراء حول استخدام اللقاحات حول العالم، تقول لارسون عن الأسابيع التي أعقبت تعليق الدول الأوروبية استخدام لقاح “أسترازينيكا”: “شهدنا انخفاضًا حادًّا في الثقة باللقاح في قارة أفريقيا”، وهي المنطقة التي كان من المتوقع أن يُسْتَخْدَم فيها هذا اللقاح بصفة مستمرة، ويشير استطلاع للرأي أجرته صحيفة “واشنطن بوست” بالتعاون مع محطة “إيه بي سي نيوز” إلى أن ضررًا مماثلًا قد وقع في الولايات المتحدة خلال فترة توقف العمل بلقاح “جونسون أند جونسون”؛ إذ قال 22 بالمئة فقط من الأمريكيين الذين لم يتلقوا اللقاح إنهم مستعدون للحَقن بجرعة “جونسون أند جونسون”، وتخشى لارسون وآخرون أن الأشخاص المرتبكين والذين تراودهم المخاوف غالبًا ما يلجأون إلى مصادر معلومات غير موثوقة عن مدى أمان اللقاحات، تقول لارسون: “إذا لم يحصل هؤلاء على إجابات واضحة، فإن هذا يترك الباب مفتوحًا على مصراعيه لتلقِّي معلومات مغلوطة وانتشار معلومات مُضَلِّلَة؛ فالفراغ الذي يُخَلِّفْهُ نقص المعلومات يملؤه الناس بروايتهم الخاصة”.